تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هيرقليطس: من يحدق في المرآة?

كتب
الاربعاء 29/8/2007
يجمع كتاب (جدل الحب والحرب) شذرات هيرقليطس الضائعة, والتي ليست سوى بقايا كتابه المفقود (في الطبيعة).

وعلى العموم فإن هذه الشذرات تكشف عن فلسفة هيرقليطس كلها, فقد عرف عنه أنه فيلسوف الصيرورة, فهو الذي رأى: أننا لا نستطيع أن نستحم في ماء النهر مرتين, فالموجودات في حالة تغير مستمر, وعلى ما يبدو أننا لا نستطيع أن نستحم في ماء النهر حتى ولو مرة واحدة.‏

فالنهر لا يظل النهر نفسه, ولا نحن الأشخاص أنفسهم في كل مرة نزلناه, فالتغير يحكمنا كما يحكم الاشياء, واتصالنا بها, اتصال تغير وتحول وليس اتصال ثبات.‏

فالأمر أكثر تعقيداً إذاً, ففي اللحظة التي ينظر فيها أحدنا إلى المرآة وهو يقول لنفسه: هذا أنا, لا يكون هو نفسه, ففي تلك اللحظة نكون في حالة تغير, ومن الأجدى أن نحدق في المرآة وأن نسأل أنفسنا: هل نحن فعلاً من نرى في المرآة?‏

وربما الأفضل ألا ننظر وألا نسأل, فليس هناك وقت لهذا, فالتغير جوهر الاشياء والصيرورة لا ترحم, فهي تأخذنا جميعاً وبالنسبة إليها لا موجود سواها.‏

والتفكير في الثبات والصلابة, إن هو إلا سعي بشري ضار من أجل إثبات أن هناك ما يبقى, وما يدوم, الثبات زعم بشري بأنه يمكن تحقيق انتصار ما على الجريان المستمر, على شلال التحول الهادر الذي لا مفر منه.‏

ولم يجد هيرقليطس تعبيراً أشد قرباً إلى الصيرورة من تعبير النار, بل النار نحن, ونحن النار, والنار هي التجدد والتغير والتحول, وصلابتها في اشتعالها مع أن اشتعالها ليس سوى أثير, والأثير بلا لون ولا رائحة ولا طعم ولا شكل.‏

ومع ذلك فالأثير ليس (لا شيء) بل هو كل شيء وليس هناك من وجود إلا وجود الأثير, وهو وجود صائر دوماً, أو هو وجود في حالة صيرورة, والصيرورة نار ولا حاجة للقول إنها موقدة.‏

فالنار كذلك لأنها دائماً موقدة, فإلى أين سيهرب النائمون, أيعتقدون أنهم بنومهم أطفؤوا نارهم , بل هم نائمون في النار, ولكنهم يشيحون بوجوههم إلى عوالم خاصة, عوالم ذاتية هي عوالم الاغتراب, فعندما ناموا هربوا إلى اللاعقل, وفقدت نفوسهم ذواتها الأصيلة وانضموا جميعاً إلى الوجود الجزئي وتحولوا إلى اشياء, وأنتجوا علاقات متشيئة, لذلك حقت عليهم حروب المستيقظين, الذين ينتمون إلى عالم العقل, والذين يعون فعل النار أو فعل العقل ومهمتهم إيقاظ النائمين, والمستيقظون قدرهم أن يكونوا محاربين, بل هم مستيقظون لأنهم محاربون وليس امامهم سوى الحرب ضد النائمين, وحروبهم غاية وليست وسيلة, وانتصاراتهم فيهم وليست لهم, فهم ينتصرون عندما ينتزعون انفسهم والآخرين من عالم التشيؤ, فحروبهم انتصار كلها وليس فيها خسارة لأحد.‏

فطالما أنهم يخوضون حروبهم في عالم من نار, فهم لن يحرقوا أحداً, فلا تحرق نار نفسها ولا تخشى نار لسعة النار, ومع ذلك فإن حروبهم الواعية أخف وطأة من كوابيس النائمين.‏

< د.منذر شباني‏

كتاب: هيرقليطس, جدل الحب والحرب, ت: مجاهد عبد المنعم مجاهد, دار التنوير بيروت, .2006‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية