|
آراء أذكر أني قرأت أعمالاً كثيرة في مسألة الجسد, منها على سبيل المثال: ذاكرة الجسد, ضجيج الحسد, رعشة الجسد.. فماذا عساها تضيف ( رنا ) إلى هذا الجسد الذي أشبعنه وأشبعوه تجريحاً وتشريحاً وتمزيقاً وتزويقاً, وهي التي أعرف أنها مهندسة مدنية, وأنها ابنة الصديق الأديب عادل أبو شنب, وأنها مدّرسة في كلية الهندسة, وليست بكاتبة? تساءلت كذلك: هل انتقلت عدوى الكتابة إليها من والدها, وانتقلت إليها عدوى الحديث عن الجسد من أحلام مستغانمي وهيفاء بيطار وسواهما? بما بقي عالقاً في ذاكرتي من انكليزية محطمة, أمكنني ترجمة اسم المكان ب ( بيت الفن ), ولكن أين يتموضع هذا البيت, وفي أي ركن من أركان دمشق المتفرنجة سياحياً يقع? الاستعلامات الهاتفية أعلنت عدم إدراج هاتف المكان المطلوب في حاسبها الآلي, واستعلامات الفنادق ذوات النجوم المتعددة نفت معرفتها به, وكذلك استعلامات المطاعم السياحية كالثآليل في الوجه الصبوح. عامل التنظيفات وحده أخبرني أنه كان يعمل في المنطقة التي يستقر بها ذلك البيت, قبل أن يوقظه مراقب النظافة من سهوة عابرة ألمت به في ظل جدار, فأمر بنقله, عقاباً له, من تلك المنطقة المريحة نسبياً, إلى هذه التي لاراحة للمرء فيها إلا بلقاء ربه! وأنا أتلفت يمنة ويسرة, وأمسح بنظري ونظارتي كل مايقع في مرمى الرؤية من المنطقة, بحثاً عن أيما إشارة تدل على البيت المقصود, توقفت قربي مرسيدس سوداء رسمية, وانحدر منها صوت يناديني باسمي, وأطل وجه الأديبة الكبيرة والصديقة العزيزة السيدة كوليت خوري. قلت: فرجت. وقالت كوليت: فرجت. فقد ظنت أني أعرف البيت. مثلما ظننت أنها تعرفه! اهتدينا إليه أخيراً. دخلنا بهوه, ثم انحدرنا إلى صالته الواسعة. كان هذا المكان, في غابر العصر والأوان, طاحوناً يدير رحاها ماء بردى, وهاهو عصرنا الميمون هذا يحول الطاحون إلى ( بيت الفن ), ولكن بالإنكليزية لا بالعربية. في زاوية من الصالة جلس عادل أبو شنب مع عكازه, وفي العمق منها جلست رنا تكتب كلمات على نسخ من ( لغة الجسد ) وتختمها بتوقيعها. استلمت نسختي شاكراً, ثم ودعت ومضيت. لغة الجسد, وفقاً لقراءة السيدة رنا أبو شنب, مغايرة تماماً للغات الأجساد التي انداحت في الأعمال القصصية والروائية لكثير من كاتباتنا وكتابنا, إنها لغة عالمية, نفسية, اجتماعية, استخلصتها رنا من حركات الجسد الظاهرة, الناجمة عن وضعية الجلوس واليدين والساقين والقدمين, والنظرات وحركة بؤبؤي العينين, فلكل منها لغته الخاصة. التحكم بحركات اليدين والرجلين, ورسم ابتسامة متكلفة على الوجه, أسهل بكثير من التحكم في العيون, كما تقول الكاتبة. فما يتغير في العين ليس جهة النظر أو طريقته, بل هو البؤبؤ الذي يضيق ويتسع بطريقة تتلاءم مع المشاعر الداخلية للإنسان, دون أن يملك القدرة على التحكم فيها, لذلك توصف النظرات بأنها متعالية, أو باردة أو حارة أو ساخرة. ثم تخبرنا الكاتبة أن اتساع بؤبؤ العين يتوافق مع السعادة والإثارة, وحين يتسع يأخذ الوجه شكلاً جميلاً مريحاً, بينما يترافق تضيقه مع الغضب والحزن, فيأخذ الوجه شكلاً قوياً مسيطراً دون لطف. وتقول الكاتبة: (إن النظر في عيني محدثك يعطي أفضل الأثر في أي نوع من أنواع المحادثات). لقد أحسنت رنا في طرق هذا الباب من التأليف فهو شائع في الغرب, لكنه ليس معروفاً عندنا, وأظن أننا والكاتبة معنا, نعرف أن مد الساقين, وإظهار القدمين, بحضور آخرين, ولاسيما ا لكبار بالسن, غير جائز اجتماعياً, ثم إن حسن الإصغاء للمتحدث سجله موروثنا الثقافي بعناية فائقة, يقول أبو تمام مثلاً: من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت كان الحلم رد جوابه وتراه يصغي للحديث بسمعه وبعينه ولعله أدرى به إنها لبداية طيبة ياسيدة رنا, فتابعي ولاتنسي مالدينا من هذه اللغة. |
|