|
معاً على الطريق لم يجد المعلم الصيني بدا من أن يعيد تصحيح معنى الانحياز حين لم يتلق من تلامذته معنى صائبا ودقيقا له , فقال : الانحياز هو أن ينظر الناس الى الذهب في يد الفقير فيقولون لأنفسهم هذا نحاس , وأن ينظروا إلى النحاس في يد الغني فيقولون لأنفسهم هذا ذهب ولاشك !! وعلى هذا البناء , ثمة الكثير من الذهب في التاريخ رآه مدونو التاريخ نحاسا , وثمة الكثير من النحاس رآه هؤلاء المدونين ذهبا , فهل يعني ذلك أن الذهب المطموس سيظل مطموسا على أنه نحاس , وأن زيف لمعان النحاس سيظل يضلل العيون أبدا, وان من كتب التاريخ ذهبا أو نحاسا هو من حسم المسألة نهائيا , وأن لا سبيل بعد ذلك أمام قراء التاريخ سوى أن يقرؤوا الذهب ذهبا والنحاس نحاسا ولو كان العكس هو الصحيح ؟؟ بالطبع لا , فالقراءة التاريخية لا تحكمها الأمزجة والأهواء طويلا , ولو كانت كذلك حقبة من الزمن , واستعادة التاريخ مقروءا لا يعني أبدا ذلك النموذج الببغائي من القراءة الذي يحفظ ولا يفهم والذي يسرد ولا يتمثل . ثمة قوانين تتضافر وتتكامل في تحسين القراءة التاريخية , بل في تصحيح هذه القراءة إذا كان ثمة لبس أو شك في موضوعيتها , قوانين طبيعة ونبات وحيوان وقوانين فيزياء وكيمياء ورياضيات , وقوانين اجتماع وفلسفة ونفس وغيرها , كلها جاهزة لتصويب ما اعوج من التاريخ المدون والمقروء , ولتسوية ماتقعر أو تحدب منه .. شرط أن يكون قارىء التاريخ جاهزا للحياد وعدم الانحياز المسبق على طريقة المعلم الصيني !! فإن كان قارىء التاريخ عازما سلفا على الانحياز إلى أو التجني على ما يقرأ من التاريخ تحت وطأة العاطفة والهوى أو التربية والعادة , فإن كل قوانين الارض والسماء لن تصوب له رؤية أو قناعة , وإن كان عازما سلفا على الحياد وعدم الانحياز فمن السهولة أن يقرأ التاريخ صحيحا ولو كان مكتوبا بكلمات خطأ ؟ في تاريخنا وتراثنا الكثير الكثير من كتبة التاريخ , منهم من استخدم ماء الذهب في تدوين وتفسير أحداث من نحاس , ومنهم من لم يتوفر لديه ماء الذهب فكتب بالطين أحداثا من ذهب , المهم أننا اليوم وبكثير من الحياد الاعمى والانحياز الفج , نقرأ التاريخ ونستعيد أحداثه والدروس , فما كان منه ذهبا زدناه صقلا ولمعانا , وما كان منه نحاسا صدئا أعدنا صقله مرات ومرات ومسحناه بالأحماض والملمعات ليغدو كما لو أنه الذهب .. لماذا ؟ لأننا لم نعد نملك أن نصنع التاريخ كما نهوى ونحب , ولأننا لم نعد نملك سوى الماضي , ولو كان كثيره نحاسا لامعا , ملاذا من غضبة الحاضر !؟ |
|