|
ملحق ثقافي وراء إغواء الرواية، التي استدرجته إلى فخاخها، وهو الذي أكّد في أكثر من تصريح له بأنّه لن يتورّط في كتابة رواية ثانية، وأنّ روايته «إلى الأبد.. ويوم»، التي فازت بمسابقة دبي 2007، ستبقى يتيمته/ أثيرته الروائيّة، كما كان قد كرّر ملابسات انهمامه بروايته التي قال إنّه أنهاها في مدّة قصيرة. حيث نقرأ له «شكر للندم» روايته الصادرة حديثاً عن دار أرابيسك «ط1/2009- 185 ص من القطع الوسط». هل جدّد عادل محمود في «شكر للندم»؟ هل جرّب أم أعاد التجربة الأولى الناجحة؟ هل قلّد نفسه؟ هل غدت الروايةُ الغوايةَ عنده؟ هل إغراء «زمن الرواية» والجوائز المخصّصة لها جذبه في ظلّ القول بانحسار قرّاء الشعر..؟!. ينسج عادل محمود «شكر للندم» على منوال روايته الأولى، يبدو كأنّ فخّ التجربة الأولى طغى على كتابته، فكان أن حاكاها في تجربته الثانية، حيث ألقت بظلالها عليها، من عدّة نواحٍ، منها: طريقة تقسيم الفصول وعنونتها، الاقتباس، الاستشهاد، إلغاء الحبكة المحوريّة، اعتماد القصص والحبكات المتعدّدة، اللغة الشاعريّة، العبثيّة الوجوديّة التي تلازم الشخصيّات، أجواء الرواية. أمّا العنوان الآتي مبتدأ لا مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف تقديره «شكَر شكراً» قد يدلّ على أنّ الشكر المخصوص للندم، هو شكر محسوب بدقّة غير مؤكّد وغير مطلق، وقد يتحوّل في المستقبل إلى اعتذار أو ثناء.. أو قد يبقى «شكر» فقط من دون أيّة تعريفات أو تشظّيات أو انزياحات تُلبَّسها.. يظهر حرص الروائيّ منذ البداية على تقديم اللا مألوف، وما تقديمه بمقولة للماركيز دوساد إلاّ تأكيداً من قبله على ذلك. وبالفعل يحاول مجاراة ما أثبته في أحداث الرواية عبر خلخلته للبنى الروائيّة، وتنقّله الزمكانيّ غير المسوّر، وسخط شخصيّاته.. تدور أحداث الرواية في عدّة أمكنة، تكون دمشق المركزيّة بينها، مع تنقّل هنا وهناك «أنطاكية، اللاذقيّة، بغداد، الكويت»، سواء ارتحالاً عبر الذاكرة أو في واقع الرواية.. وتكون الرواية بناءً على الحصول عن طريق المصادفة على أوراق ومذكّرات أحدهم. وهذه حيلة روائيّة كلاسيكيّة، اعتمدها الكثيرون من الروائيّين.. حيث يعثر أحدهم على مذكّرات مدفونة أو مخبّأة بطريقة ما، ثمّ يقول إنّه يكشفها ويقوم بعرضها على القرّاء.. يسرد الروائيّ على لسان بطله الشاعر وائل ديوب قصّته وجيلَه المنتكسَ بالواقع المأزوم، والمعاصر لكلّ الهزائم العربيّة منذ احتلال فلسطين حتّى احتلال العراق، وما بينهما من مآسٍ. يصف الراوي نفسه بأنّه لا يعرف كيف يبدأ حكاية ناجحة، يجد فرصته في التلصّص على حيَوات آخرين يحاولون ذلك، فيقرّر البدء من حيث تقتحم دوريّة شقّة أحدهم «حسين»، تفتّش الغرف، تنكش في كلّ شيء، تنزل الكتب عن الرفوف، تبعثر السرير، تنبش في كلّ زاوية، يعثر أحد عناصرها على كرتونة مغلقة، بعدما يفتحونها، يكتشفون أنّها مليئة بدفاتر وصور قديمة، يلملم أحد العناصر ما يتيسّر له من أوراق ودفترين وبعض الصور.. وتكون المفاجأة/ الفاجعة، عندما يزور ذاك العنصر مع أحد أصدقائه منزل الشاعر وائل ديوب، ويبوح في سهرة شرْب، عملية اقتحامه قبل سنة، عندما كان مع دورية بيت شاعرٍ، وكيف أنّهم لم يجدوا شيئاً، فأخذ هو ما تمكّن من أخذه. يستلم وائل ديوب تلك الأوراق، يتّكئ عليها في كتابة روايته، مقرّراً إلغاء فكرة التشويق، كما يقول، كاشفاً أسراره، لاغياً الحبكة التي لم يلتزم بها، مفصحاً عن لقائه بالرجل «حسين» شخصيّاً يوم انتهائه من كتابة الرواية التي دمج فيها أوراقه المبعثرة بحكايته المتعثّرة، من دون أن يسهو عن الالتفاف بذكاء على القارئ ممارساً الإيهام ليلغي الإيهام نفسه، يثبته لينفيه، قائلاً: «قد لا يُلام مَن يعتقد بأنّ هذه حيلة يلجأ إليها الكتّاب، ليزيحوا عن تَلَف حياتهم فضيحتها، أو ليستعينوا بالغائب الغامض، صاحب الأوراق، والشاهد على نفي الخيال عن الواقع وتكبير مسافة التعارض بين الحلم والحقيقة... لقد مارس هذه الطريقة معجمٌ كامل من الموهوبين ومن عديمي الموهبة...». ص13. وهو في إقراره هذا لا يبعد التهمة، التي يثبتها على الكثيرين، عن نفسه، بل يتهرّب منها بلعبة روائيّة، بالقول إنّ الأوراق التي سيفسح لها المجال لتتكلّم لا تحمل أفكاراً بالغة الأهمّيّة، بل فيها ما يمكن تسميته «الانتباه إلى فوات الأوان». ثمّ يعاود التفافه بالقول: «ليس ضروريّاً أن أقول، على سبيل الخديعة البريئة: هذه الأوراق، على تعثّرها الأدبيّ، ليست تلفيقاً، وحيلة اختباء الثرثرة، أمام قارئ متطلّب، يبحث عن متعة في عصر انكفاء القراءة...». ص16. تتوالى الفصول، يتبادل فيها الشاعر ديوب، مع الشاعر حسين، السرد والبوح، تدخّل عدّة شخصيّات إلى مسار الرواية، منها راما الراغبة في أن تصبح سينمائيّة، والتي كانت عشيقة صديقه، ثمّ تصبح عشيقته، لكنّه يفشل في إقامة علاقة حميمة معها، بعد ليلة مجنونة قضياها معاً. ثمّ هناك صديقه الذي يحصل على لوحة لدافنشي، كان قد سرقها أحد جنود العراقيّين أثناء اجتياح الكويت من قصر الأمير، هناك الفتاة التركيّة التي تكون مندوبة لجماعة تساوم لشراء اللوحة. وهناك سلمى؛ طبيبة العيون، التي قُتِل والدها. يحضر الحديث عن حياة الفدائيّين، ذلك أنّ «حسين» يتحدّث في أوراقه عن بعض النقاط الهامّة في تاريخه، انضمّ إلى الفدائيّين، حين كان متحمّساً للعمل الفدائيّ، ومفعماً بالشعارات، ثمّ بعدما أصابته الهزائم المتلاحقة باليأس، يعمل دهّاناً يمسح بالألوان، فيما يدهن الحيطان، كلّ شعارات مرحلة الفدائيّين، يثور ثورة صامتة على الشعارات التي لم تحقّق سوى الهزائم، ويكون تقهقره ردّ فعل على حالة السبات السائدة، وعلى الثرثرة المصاحبة. أمّا المصائر، فقد وردت بإيجاز، حيث التشتّت يكون للجميع بالمرصاد. يلتقي الراوي بالصدفة صديقه حسين في المشفى الوطنيّ في اللاذقية، بينما كان يزور صديقاً آخر، يكون حسين مصعوقاً بالكهرباء، لكنّه لم يمت، يقول عنه: «كأنّما الموت يتحاشى هذا الرجل». يختم الكاتب روايته بالحبّ الذي استهلّ به إهداءه «إلى كلّ أصدقاء أزمنة الندم والحبّ».. ليدوم عمر الحبّ طوال مدّة التحمّل.. يسقط الندم ليسمو الحبّ، فتقول «شكر للندم»، وشكراً للحبّ.. دافنشي ونيكوس كازانتزاكيس حاضران بقوّة في «شكر للندم»، عبر زورباويّة مُعلنة، واستشهادات أو اقتباسات متضمنّة، من جهة، ومن جهة أخرى، استقى المعلومات حول دافنشي وأعماله وابتكاراته، من رواية «شيفرة دافنشي» لدان براون، وذلك في أكثر من موضع، الصفحة 96، 97، 99، حيث يشكّل دافنشي محوراً رئيساً من محاور الرواية. إذ تنتقل لوحته الأصليّة من قصر الأمير إلى يد عدد من السماسرة، ثمّ إلى تركيا فألمانيا، لتباع بملايين الدولارات، يشكّل ذلك الحدثَ الأبرز في أكثر من فصل، ثمّ يكون فيما بعد حديث عن إنجازات وابتكارات دافنشي، الذي كان عالماً علاوة على كونه رسّاماً بارعاً.. ثمّ يعدّد بعضاً من ابتكاراته: «المطبعة التي نشرت ملايين الأناجيل والكتب بدلاً من العشرات، قلم الرصاص..، البوصلة.. قاهرة الضياع في البحر، الساعة... لقد بدأ التزمين وساعات الشقاء، المدفع... هذا الذي ما تزال مدائح عبقريّته حتّى يومنا هذا تملأ المقابر». ص 99. تتصاعد نسبة الاقتباسات والتضمينات، التي يبني عليها الكاتب فصوله، فيندر أن تقرأ فصلاً يخلو من اقتباس أو استشهاد ما، سواء من الأساطير أو من الكتّاب والمفكّرين، ومن أولئك الذين استشهد بهم الكاتب أو تحدّث عنهم أو اقتبس منهم: «الماركيز دوساد، توفيق الحكيم، يحيى جابر، موزارت، إمام عبد الفتّاح إمام، سعد الله ونّوس، نيكوس كازنتزاكيس، فرويد، هرمان هسّه... وغيرهم».. على الرغم من أنّ المباشرة تسِم بعض فصول «شكر للندم»، التي قسِّمت إلى سبعة عشر فصلاً، وثلاثة ملاحق أخبر فيها الروائيّ عن المصائر بمباشرة ودون تورية أو تأجيل، فإنّ الإيحاء يلعب دوراً مصاحباً رئيساً في الرواية.. كأنّما تبادل الساردين، دعا إلى تبديل في وتائر أصواتهم، التي لم تبقَ في خطّ واحد متصاعد، وبادل بالتالي بين المباشرة والإيحاء.. مع غلبة أحدهما على الآخر، أو الجمع بينهما أحياناً.. هذا ما أضفى حيويّة على الرواية، من جهة، وقرّب لغتها من لغة المقال في بعض الأحيان، ولاسيّما في تلك الحالات التي يتوحّد فيها الروائيّ مع شخصيّاته، وينوب عنها في التحليل والتأويل.. |
|