|
ملحق ثقافي في القصِّ قضية صعبة، ولعلها غير محلولة، ولا يجدي فيها رسم الخطوط البيانية. ومثلها في ذلك مثل وضع تعريف شامل ونهائي للقصَّة القصيرة، أو رسم خطوط بيانية لبنيتها، إذ يبلغ عدد أشكال القصّ عدد الكتّاب العظام أنفسهم، فالقاصّ لا يمكن إلا أن يختار الزاوية التي ينظر منها إلى العالم، ومنظوره هذا يقضي بأن يقوم باختيار الأحداث، واختيار نظمها في بناء قصصي ذي دلالة كليَّة، وكل اختيار يقوم به القاصُّ “يحتمل إمكانية قالب جديد”، كما يقول أوكونور. هذا إضافة إلى تغيُّر الحياة نفسها، وهو تغير يخلق التجربة، وهذه تخلق شكل تجسدها، “فأفكار العصر تجد دائماً أشكال صياغتها في حينها”، كما هو معروف. وليس من عامل وحيد يدخل في تكوين التجربة وتقرير الشكل، وإنما هي عوامل عديدة متشابكة تشابك ملابسات الحياة، ومن هذه العوامل: أسلوب حياة الكاتب، مستواه الثقافي ودربته، تأثُّره بالإنتاج الأدبي العالمي، الانقياد للماضي أو الحماسة من أجل التجديد. ولا يغرب عن بالنا أنَّ أشكال القصِّ القصير لا تعود إلى بدايات هذا القرن كما يذهب عدد من النقاد، ولا إلى القرن الماضي كما يذهب عدد من النقاد الآخرين، وإنما إلى تلك المرحلة التي كان الإنسان فيها يحكي قصصاً تجعله سيد عالمه. فتحوّل تجربته أحلامه إلى حقائق فنيّة، فالتجربة، في كل مرحلة تاريخية، تكتسب مادّتها وشكل تجسّدها بفعل عملية إنتاج قصصيّة تشرطها طبيعة المرحلة نفسها. ليس من مهمّات هذه المقالة القصيرة أن تبحث في جماليَّة فنيَّة الأشكال القصصية القديمة، وإنما في جماليَّة/فنيَّة شكل ظهر خلال المئة وخمسين سنة الأخيرة، وغدا أكثر الفنون الحديثة انتشاراً، وكان حين ظهوره شكلاً أدبياً جديداً، وتسمياته باللغات الأجنبيّة تشير إلى تلك الجدّة، مثل “نوفيلا” بالإيطالية، و”نوفيلين” بالألمانية و”نوفيل” بالفرنسية، وهذه التسميات تشير إلى نوع جديد من القصّ ذكر في ملحق قاموس أكسفورد الإنكليزي عام 1933. ويلاحظ المطّلع على تاريخ هذا النوع من الفن القصصي أنّه كان متنوع الأشكال، ويتصف بحركة دائمة، وهذا يسمح بالحديث عن نماذج وخصائص عامّة شائعة قابلة للتطّور، وليس عن نماذج وخصائص نهائية وثابتة، الأمر الذي قد يفضي إلى ظهور نوع جديد في الوقت الملائم. وهذه الحقيقة تجعل الباحث يدرس الخصائص المميّزة في نماذج محدّدة، بهدف الوصول إلى ما هو مشترك وليس العكس؛ إذ إن البحث في بنية عامّة لا يجدي في تلمّس الفنيّ وفرادته. وإلى هذا يلمح بارت في كتابه “Z/S”، عندما يتحدث عن “عقم مطامح البنيويين من دارسي القصَّة الذين يحاولون حصر كل قصص العالم في بنية واحدة”، فمحاولة الكشف عن هذه البنية الواحدة، كما يضيف بارت “إنما هي محاولة عقيمة لأنّ كل نصّ ينطوي على اختلاف، وهذا الاختلاف ليس من قبيل التفرّد فحسب، وإنما هو نتيجة الخاصيّة النصيّة نفسها. وهذا يعني، كما يقول سلدن، أن “البنيوية لا تملك الكثير الذي تقدّمه للناقد التطبيقي، وأن ثمّة دلالة لافتة في الأمثلة التي تستخدمها الدّراسات البنيوية تأتي غالباً من القصص الخرافيّة والأساطير والقصص البوليسيّة”. وإن يكن هذا صحيحاً، على مستوى اختلاف القصِّ الفردي/الإبداع، فإنَّه من الصحيح أيضاً الكلام على جوهريِّ في هذا القَّصٍّ الفرديِّ، مشترك بينه وبين النُّصوص القصصيَّة الأخرى، والإبداع إنَّما يتمثَّل في إبداع المتفرِّد الخاصِّ المنطوي على الجوهريِّ المشترك. هذا إضافة إلى أن هذه الدراسات تعزل الأدبيّ عن مرجعه وتجربة إبداعه ورؤيته، وتقتصر في تحليل النصّ على رصد العلاقات الشكليّة بين العناصر المكوّنة له. غير أنّه، على الرغم من هذا كله، يمكن الإفادة من المبادئ العامّة لبنية القصَّة التي قدّمتها هذه الدراسات ومن قواعد القصّ الأساسيّة التي تحدّدها، ومن المفاهيم والإجراءات التي قدَّمتها مناهج الدِّراسة الحديثة. ويبقى أمام النّاقد التطبيقي أن يدرس فرادة النصوص مستخدماً حدسه النقدي ومناهج نقديّة أخرى ترى إلى النصّ بنية كاملة من نحو أول، وعنصراً في بنية أشمل من ناحية ثانية، فهي تصدر عن مرجع وتنتظم في بنية، في علاقات يُحدّدها مستوى فاعليتها الفنيّة: جمالاً أدبياً ودلالة كاشفة. إن طبيعة التجربة تحكم اختيار مادة القصّ وكيفية أداء هذه المادة؛ الأمر الذي يحدّد نوع القصّ. يرى أكونور أن القصَّة القصيرة هي “فن اللحظة المهمّة”، واختيار هذه اللحظة من أدق مهارات القصَّاص البارع، فان أجاد الاختيار وإقامة البناء القصصي من ثمَّ، فإن هذه اللحظة قد تكشف عصراً بكامله. فالقصَّة القصيرة تجسِّد اللحظة المهمَّة في بناء فني قوامه الأساس التَّكثيف والتَّركيز والتَّقطير... الذي يشمل كلَّ كلمة وكل جملة والشخصيات والمواقف والوصف والحوار الخ... أو هي تجسِّد جزئية مغلقة محددة تنمو باطراد سريع إلى اكتمال نصٍّ لغوي ينطق بالدلالة. ولهذا يرى بعض النقَّاد أن القصَّة القصيرة تتفق مع القصيدة الغنائية في إطارها المحدد وفي اتجاهها الذاتي؛ وذلك بالقدر نفسه الذي تتماثل فيه الرِّواية مع الملحمة. ويحلو لكثير من النقاد إجراء مقارنة توضح الفرق بين القصَّة القصيرة والرواية، ويقول أحدهم: “إن كاتب القصَّة القصيرة يعطينا قطعة أساسية من الفسيفساء فقط يمكننا أن نرى من خلالها الزخرف كاملا لو كنا على قدر كاف من الإدراك. أما الروائي فيعطينا الزخرف في علاقاته المتشابكة بين القطع نفسها من ناحية وبين القطع وباقي العناصر المجاورة من ناحية ثانية”. ويقول آخر: “ فلنقارن الرِّواية بنزهة طويلة خلال أمكنة مختلفة تفترض رجوعا هادئا. والقصَّة القصيرة بصعود تل هدفه أن يتيح لنا مشاهدة ما يبدو من ذلك الارتفاع “. إن هاتين المقارنتين تفيدان أن القاصّ يجسد الرؤية إلى الحياة من زاوية معيَّنة، وفي لحظة محدَّدة مختارة بعناية، فيحدث ما يجسده تأثيرا مفردا وانطباعا واحدا، أي يبعث على إحداث نشاط فكري ينفعل بالواقع، وهو يرى إليه ويفسره ويتخذ موقفا منه، ينطق بالدلالة على رؤية القاصّ إلى عصر معين أو إلى قضية كبرى. ولهذا فان جوهر الأقصوصة هو التركيز في اتجاه النهاية المتقررة التي يطلق عليها عادة “لحظة التنوير”. فالقصَّة القصيرة مجرد عيَّنة من الشيء بينما الرِّواية تمثل الشيء كله. |
|