تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفيلم التركي يهز ذيل النمور ويستعيد عصره الذهبي

ملحق ثقافي
12/1/2010
المؤلف:سومر الجباوي : لم يكن ليدر بخلد أحد من الصحفيين والنقاد الذين اجتمعوا بفضول في قاعات سيني راما،

إحدى أضخم الصالات السينمائية في مهرجان روتردام الأخير، لمتابعة ما سمي «بتسونامي السينما التركية» أنهم سيكونون أمام وجهٍ جديد وغير مألوف لهذه السينما، تقدمه مجموعة من الشباب الليبرالي الذي لم يلتحق معظمه بمدارس سينمائية، ولكنه نجح و ببراعة في عكس صورة واقعية ومتجددة لنبض الحياة في تركيا. هذا البلد المترامي الأطراف، القابع على تخوم الاتحاد الأوروبي، والحالم بالانصهار في بوتقته والانخراط ضمن قيم وتقاليد مختلفة تثير له بين الحين والآخر تجاذبات وانقسامات حادة.‏

أربعةَ عشر فيلماً تركياً شقت طريقها إلى عتمة الصالات الهولندية، ورسمت على شاشاتها البيضاء قصصاً جريئة وحساسة ،عكست بقدرٍ كبير التحول الذي تعيشه تركيا اجتماعياً وسياسياً ضمن توليفة من الحب والجرأة، الصمت والانفجار، الانعتاق والانتماء، ولا بأس من حضور أيقونات ثقافة البوب في السبعينات - في بعض الأحيان - كخلفية تُكمل الصورة الكلاسيكية التي عشقها الجمهور التركي في الماضي، ومازال يقبل على مشاهدتها اليوم.‏

آلام المخاض‏

بعد سقوط «يشيل جام» أو هوليوود التركية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، هذا المارد السينمائي الجبار الذي كان يصنع سنوياً في فترة الستينات والسبعينات ما يقارب الثلاثمائة فيلم لأهم مخرجي تلك الفترة من أمثال :يلماز غوناي، عاطف يلماز، درويش زعيم ، يشيم أوغلو، ونوري بيلجي جيلان. وعلى الرغم من اختلاف السوية الفنية لهذه الأفلام التي سيطرت على معظمها نزعة سينما المؤلف ،إلا أن هذا الكمَ الهائل من الأفلام جعل من تركيا خامس أكبر دولة منتجة للفيلم السينمائي في العالم بأسره. بيد أن هذا الانتعاش السينمائي لم يدم طويلاً بسبب انتشار التلفزة والفيديو وباقي الوسائط البصرية التي فرضت نفسها بديلاً مغرياً عن طقس المشاهدة في الصالات السينمائية التركية. كما لعبت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتركيا في نهاية السبعينات ،والنفس القومي الشوفيني الذي حمله الانقلاب العسكري للجنرال كنعان إيفرين دوراً في انحسار دَور السينما في المشهد الاجتماعي التركي لصالح الهيمنة العسكرية. جميع هذه الأسباب ساهمت في الإطاحة بالنظام السينمائي القائم والمسيطر من الستينات وحتى منتصف الثمانينات ،وخلقت فجوة في الحياة السينمائية التركية جعلت كثيراً من صنّاع الأفلام الأتراك في مهب الريح. هذا الوضع المتأزم والجديد دفع عدداً من المخرجين الأتراك من أمثال :عمر غافور، إردين كيرال، ويفوز تورغال إلى إعادة خلق حالة سينمائية جديدة ومتفردة في البلاد، تميزت باستقلاليتها الفكرية والمادية. هذا الانعتاق من القوالب الفكرية وسيطرة رأس المال، دفع بالمخرجين الأتراك مع بداية التسعينات إلى خلق أساليب جديدة في التعبير السينمائي، لم تكن موجودة سابقاً.فخرج طيفٌ واسعٌ وغني من الأفلام التركية إلى الوجود ، وتخبطت هوية تلك الأفلام بين القرية والمدينة، بين الانتماء الإثني و السياسي، وحتى بين المعقول واللامعقول. وعكست شخصيات هذه الأفلام بطريقةٍ أو بأخرى ،انعتاق مخرجيها وتخبطهم في بحثهم المستمر عن الحقيقة، و الشفافية من منظور تجاربهم الشخصية. وعلى الرغم من انخفاض ميزانيات هذه الأفلام إلا أنها استطاعت انتزاع الاهتمام العالمي، فاكتسح فيلم «شقلبة في كفن» للمخرج درويش زعيم في عام 1996 شباك التذاكر التركي، وامتد دويه عالمياً، فأسقط في جعبته العديد من الجوائز العالمية ممهداً الطريق لسينما تركية جديدة، لا تعتمد على الميزانيات الضخمة في نجاحاتها.‏

ومع انتفاض طائر الفينيق التركي، وحصده المزيد من الاهتمام العالمي والجوائز، حققت الأفلام التركية قفزة نوعية مع بداية الألفية الثالثة. فعُرٍضَ فيلما «الإعتراف» و»القدر» لزكي ديميركوبوز ضمن تظاهرة «نظرة ا» والتي تقام على هامش مهرجان كان السينمائي الدولي، إضافةً إلى نيل فيلم «ثلاثة قرود» للمخرج نوري بيلجي جيلان في عام 2008 جائزة أفضل إخراج في نفس المهرجان . وهكذا صعد نجم مخرجين من أمثال: محمد فيصل غوشكان،مريانا غورباج، سليم إيفجي، محمد بهادير، يشيم أستا أوغلو، وكاظم أوز، مؤسسين ما بات يعرف بالموجة السينمائية التركية الشابة التي ورثت عن رواد السينما التركية المستقلة، تفردها، شخصانية مخرجيها، والاحتفاء العالمي بانبعاثها.‏

الشابة أم البديلة؟‏

جاء احتفاء مهرجان روتردام السينمائي الدولي الثامن والثلاثين بالسينما التركية الشابة من خلال عرضه لمجموعة من أفلام مخرجي هذه الموجة، فعُرض فيلم «الخريف» للمخرج أوزشان ألبير، وفيلم «السُبحة الخطأ» للمخرج محمد فيصل غوشكان، وفيلم «الكلاب السوداء الغاضبة» للمخرجين مريانا غورباج ومحمد بهادير، وفيلم»الخطان» للمخرج سليم إيفجي، وفيلم «العاصفة» للمخرج كاظم أوز، والذي أثار الكثير من الجدل والاهتمام عند عرضه في المهرجان. وقد كان من الواضح في جميع هذه الأفلام بأن أفلام هذه الموجة لم تتخلى عن نهج سينما المؤلف كما سابقاتها، فجاءت تلك الأفلام حبلى بالتجارب الذاتية لمخرجيها، على غنى هذه التجارب وتنوعها.‏

« أعتقد بأن السينمائيين الأتراك الجدد أكثر حرية، أكثر استقلالاً، وأشجعُ من الجيل السابق من صانعي الأفلام في طريقة تناولهم لمواضيع أفلامهم..» هذا ما يراه المخرج كاظم أوز مخرج فيلم «العاصفة»، في معرض حديثه عن تأثره بالمخرجين الرواد الأتراك، وإن كان لم ينكر فضل هؤلاء المخرجين في تعبيد الطريق أمام المخرجين الجدد فيما يراه بداية للسينما التركية «البديلة». فعندما نناقش تأثير أفلام مخرجي السينما التركية المستقلة على مخرجي السينما التركية الشابة، علينا أن نفهم أولاً بأن هذا التعبير ليس بهذه السذاجة المطلقة. فمن جهة، تميل أفلام «الموجة الجديدة» إلى إكمال وبعث والإرتكاز على ما خلفته سينما الرواد من إرثٍ فني وبصري، ومن جهة أخرى، تجمح هذه السينما «البديلة» إلى نسف أساليب التعبير السينمائي التقليدية السائدة، وخلق أدوات تعبير تتلاءم مع المشاكل التي تعاني منها تركيا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. فعندما نشاهد أفلاماً من مثل: «الخريف»، «كتاب الصيف»، و»العاصفة» ،نتلمسُ إرادةً قوية في هذه الأفلام لرفض الاستقطابات التي ذخرت بها أفلام التسعينات بين «صناعة السينما الفردية» و»السينما الاجتماعية»، بين «الفن من أجل الفن» و «الفن لخدمة المجتمع». لا يريد مخرجو الموجة التركية الجديدة لأفلامهم أن تكون فردية جداً وشخصية، كما لا يريدونها بوقاً يتحدث بإسم فئة من المجتمع التركي نيابة عن الوطن التركي. ولكنهم اختاروا خلق شكلٍ من التعبير السينمائي يزاوج بين الوعي الفردي والوعي الإجتماعي، والذي لم يكن من الممكن السعي إليه دون تطوير أدوات العمل السينمائي. هذا التخبط الذي مر به مخرجو هذه الموجة، انعكس حتى في أفلامهم، فتم التعبير عن مشاعر شخصيات هذه الأفلام الدفينة، والتي لا يسمح «مونتون» الحياة اليومية من إطلاقها، بخلق حالة من التوتر تظهر في انفعالات وجوه هذه الشخصيات، في طريقة تفكيرها، في سيرها، في الطريقة التي تبقى فيها الكاميرا عبر لقطات طويلة «long shots» مصممة على اقتناص أكبر قدر من انفعال هذه الشخصيات، وعجزها عن التعبير. هذا الصمت الملنخولي الذي يأتي معبراً أكثر كما في فيلم «سقوط الملاك» للمخرج سميح كابلان أوغلو ،والذي جاء فيه صمت زينب على اغتصاب والدها لها، رداً قاسياً صادماً للجمهور.‏

يقدم المخرج غوشكان شخصياته الثلاث بحيادية تامة مبتعداً عن محاكمتها، بل ينفرد في كشف نوازعها الداخلية. وعلى مسرحٍ ضيق، تجري أحداث الفيلم بين شقة موسى، المسجد، الكنيسة، شقة كلارا، المكتبة الفوضوية حيث يركز المخرج على انغلاق هذه الأماكن وعزلتها. وحتى عندما تخرج الكاميرا إلى الشوارع فإنها لا تكف عن ملاحقة الشخصيات في شوارع اسطنبول الهادئة والمعتمة، مُعززةً شعور المشاهد بعزلة هذه الشخصيات وانطوائها بالرغم من أن الحياة تضج فرحاً ونوراً على بعدة عدة كيلومترات من مسرح الأحداث. وزاد من حدة هذا الشعور لدى المشاهد، لجوء المخرج إلى الكاميرا الثابتة، وقلة الحوار في الفيلم، وريتم المونتاج البطيء خالقاً قفصاً سجنت فيه شخصيات الفيلم نفسها بفعل نوازعها وإرثها الاجتماعي.‏

ومع ارتفاع الموجة السينمائية التركية الشابة، وغزارة أفلامها وجرأة مخرجيها في التطرق لموضوعات شائكة وحساسة كالأقليات العرقية والدينية، وحتى حياة كمال أتاتورك التي كانت خطاً أحمر لا يسهل تجاوزه، أقبل المشاهد التركي على مشاهدة هذه الأفلام، فاحتلت الأفلام التركية في عام 2008 المراتب العشرة الأولى في شباك التذاكر التركي على حساب الأفلام الهوليوودية الأميركية. وبات النجاح الفكري للأفلام التركية الجديدة مقترناً بنجاحٍ مادي إلى حدٍ بعيد.‏

صخور سيزيف...‏

على الرغم من نجاح السينما التركية الشابة محلياً وعالمياً، إلا أن الحلقة الأضعف في مسيرة هذه السينما بقيت في التمويل، هذا الكابوس الذي بقي يقض مضجع المخرج التركي ،فبالرغم من إنشاء وزارة الثقافة التركية للمجلس الأعلى لدعم السينما في عام 2005، إلا أن مساهمته في تمويل المشهد السينمائي التركي بقيت محدودةً للغاية. ومن هنا برزت حاجة المخرجين الشباب للاعتماد على شبكة علاقاتهم الشخصية في إقناع أطراف أوروبية، أميركية، ومؤخراً شرق أوسطية «مستفيدين من نجاح الدراما التركية في اكتساح محطات التلفزة العربية»، فمُدت جسورُ الإنتاجات المشتركة، وبيعت حقوق العرض الأولى لهذه الأفلام لمحطات التلفزة التركية والتي لم تبخل في مد شريان المال إلى الصناعة السينمائية التركية. وفي أول تلاقٍ بين السينما والتلفزيون، وضعت محطات التلفزة التركية المعدات التي بحوزتها، و بتخفيضاتٍ تشجيعية، في خدمة صناع الأفلام الأتراك، الأمر الذي ساهم في توفير الكثير من المال.‏

آمال وطموحات...‏

نجحت الأفلام التركية في استقطاب الصحفيين والمشاهدين في مهرجان روتردام السينمائي الأخير وهي نقطة تحسب لهذا المهرجان دائماً. وغادر المخرج محمد فيصل غوشكان، مخرج فيلم «السُبحة الخطأ» محتضناً أحد نمور روتردام الذهبية الوديعة، بعد أن نجح فيلمه بإقناع لجنة التحكيم بمنحه هذه الجائزة، لتنتقل بعدها السينما التركية إلى مهرجانات أخرى تخطف بها اهتمام الجميع وتقديرهم، إن هي أخفقت في نيل أي جائزة هامة.‏

ويبقى الأمل أن تنشأ يوماً ما، في مكانٍ ما، موجة سينمائية عربية حقيقية، تكون محط اهتمام مهرجانات العالم، فتنتزع الاهتمام وتحصد الجوائز العالمية. ولا أبالي حقاً إن كانت هذه السينما سينما جديدة أو شابة أو حتى بديلة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية