تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


العاشق المملوكي والممثلة الفرنسية

ملحق ثقافي
12/1/2010
المؤلف:خيري الذهبي: أبي العزيز جداً:

لقد وصلنا بحماية النبي صلى الله عليه وسلم سالمين أصحاء إلى نهاية رحلتنا.‏

أبي العزيز لا تقلق على صحتي، فالطبيب الفرنسي المسؤول عن صحتنا قال إنها جيدة ولكنه يجد أنَّ بشرتي صفراء قليلاً، وقد وصف لي علاجاً لاستعادة اللون إلى وجهي، وسأتناول كل دواء يريدونه.. إني هنا لأتعلم.‏

أبي العزيز إنهم ينزهوننا بانتظار بدء مرحلة تعليمنا، ولقد أروني الشانزيليزيه والتيفولي، والقصر الملكي، أو «مسرح الباليه رويال» ولا شيء أدعى إلى المسرة من هذا المكان الأخير. إن أمامه سوقاً كبيرة تعرض فيها كل ثروات الدنيا. وعندما ينتهي النهار نجد أنفسنا في حديقة رائعة ترى الأزهار فيها تعطر الهواء، ومساقط الماء تشيع الرطوبة في الجو. ثم تقدمت شلة من الصبايا الحسناوات هربن ولا شك من الجنة المجاورة «يعني المسرح» وليس هناك من حجاب يخفي حسنهن عن عيوننا.‏

أبي العزيز؛ كانت إحداهن تنظر إلي ضاحكة، وقد هزني الإغراء، وأسرني، فلحقت بها، وكنت على وشك إلقاء منديلي إليها متحرشاً، ولكني فوجئت بأنَّ المنديل الحريري في جيبي قد اختفى، لا شك أنَّ نشالاً قد استلَّه أثناء انشغالي بمراقبتها. على أية حال، فالأمر غير مهم. فأنا سأعود ثانية إلى هذه الحديقة، وسوف أرى حسنائي الغريبة الجمال.‏

أبي العزيز.. .. أرجوك.. لا تكسر بخاطري، و.. .. اشترها لي حين أنهي تعليمي وأرجو أن تكون في ذلك الحين معروضة للبيع.‏

هذه الرسالة نشرتها جريدة فرنسية ساخرة في 22 / 8 / 1826، وكانت الجريدة تسمى باندورا، وأعتقد أن كثيرين يعرفون عن صندوق المشاكل والأحزان الذي فتحته باندورا حسب الأسطورة الإغريقية، ومنذ ذلك الحين صار تعبير صندوق باندورا معادلاً لغوياً لمن يفتح على نفسه باب المشاكل والمصاعب.‏

ما علينا، فهذا هو اسم الجريدة، وهي في هذه الرسالة التي وقعت بين يدي محررها تقدم ساخرة صورة عن أبناء المماليك الذين أرسلهم محمد علي إلى فرنسا ليصبحوا ضباطاً وليتعلموا فنون الحرب لدى أبناء نابليون معبود الجيوش والجنرالات في ذلك الحين.‏

محمد علي كان يعتقد أنَّ أبناء الفلاحين لا يصلحون للقيادة ولذا فقد اختار مبعوثيه من أبناء المماليك السابقين، ولكنه لم يتخلَّ عن أبناء الفلاحين فاختارهم جنداً ووقوداً للحروب في الشام والأناضول والسودان وأفريقيا الداخلية، ولكن هذا ليس موضوع حديثنا، فموضوع حديثنا هو عن فلاح مصري تخرج من جامع الأزهر، وقد اختاره محمد علي ليمضي مع أبناء المماليك إماماً وواعظاً.. ..، وشبه سكرتير لهم، فانشغل أبناء المماليك بمطاردة النساء ومعاقرة الخمر، واجتناء اللذات في مدينة اللذات باريس، وانشغل الفلاح الأزهري في تأمل العالم الجديد، ومحاولة أخذ المواعظ منه لاستصلاح بلده الغارق في عماوات القرون الوسطى. ولنقرأ مقارنة للمصري الطهطاوي بين علاقة الفرنسي بالمرأة، وعلاقة المملوكي بالمرأة كما قدمته جريدة باندورا في مفتتح مقالنا هذا، يقول الطهطاوي إنه بعد عودته إلى مصر كثر سؤال المصريين له عن المرأة الفرنسية وأحوالها، وعلاقتها بالرجل، فيقول: إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن «سفورهن» أو سترهن «حجابهن» بل منشأ ذلك التربية الجيدة أو الخسيسة والتعود على محبة رجل واحد دون غيره، وعدم التشريك «التعددية» في المحبة، والالتئام بين الزوجين، وقد جرب في بلاد فرنسة أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة «الطبقة» الوسطى من الناس دون نساء الأعيان، ونساء الرعاع!!!‏

وهذه ملاحظة اجتماعية شديدة الذكاء، فالطبقة الوسطى كانت دائماً الطبقة الحافظة للقيم أكثر من الطبقة المترفة، والمتهتكة عموماً، والطبقة شديدة الفقر حتى ليعميها فقرها عن قضية القيم أصلاً.‏

ثم يقدم صورة عن جبروت الطبقة العليا في الشرق في تعاملها مع المرأة، فيقول: كما جرى لبعض ملوك بلادنا وهو يقصد بهم حكام مصر، وهو أنه كان مع ندمائه الخصيصين به في مجلس أنس، وجارية تغني وراء الستارة، فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية، وكانت قد غنَّت بهما، فغمز الملك لحاجبه، فمضى، ثم عاد ومعه رأس الجارية مقطوعاً في طشت، وقال له الملك: استعد البيتين من هذا الرأس. فسقط الجليس مغمى عليه!!‏

ثم يقارن بين فرنسيي القرن التاسع عشر وعرب القرن التاسع عشر، فيقول: وظهر لي بعد التأمل في آداب الفرنساوية، وأحوالهم السياسية أنهم أقرب شبهاً بالعرب منهم للترك، ولغيرهم من الأجناس من حيث أمور العِرْضِ والحرية، والافتخار ويسمون العرض شرفاً، ويقسمون به عند المهمات وإذا عاهدوا عاهدوا بالشرف ووفوا بعهودهم «وهذه ملاحظة مهمة لدارسي التاريخ المعجمي للغة العربية، ومتى دخلت أو استخدمت كلمة الشرف إلى اللغة العربية بمعنى العرض، وهل دخلت بهذا المعنى مع ترجمتها عن الفرنسية؟».‏

الطهطاوي ولد عام 1801 وتوفي العام 1873، ومضى مرافقاً للبعثة العسكرية إلى فرنسا في العام 1826، ولما عاد مع بعثة أبناء المماليك والترك بعد أن لم يستطع المملوك المدلل الذي افتتحنا به مقالتنا شراء الممثلة التي شغلته عن منديله الحريري فنشلوه منه، عاد الطهطاوي وقد تعلم الفرنسية، ودرس الجغرافية والتاريخ، فأنشأ جريدة «الوقائع المصرية» وترجم عن الفرنسية كتباً كثيرة منها: «قلائد المفاخر في غرائب عادات الأوائل والأواخر»، وهو مترجم عن الكاتب الفرنسي دبينغ، وترجم «المعادن النافعة» لفيرارد و»المرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، وألف كتاب «نهاية الإيجاز» وهو كتاب عن السيرة النبوية، و»أنوار توفيق الجليل» وهو كتاب في تاريخ مصر، ثم عرَّب كتاب «القانون المدني الفرنساوي» وعرَّب «تاريخ قدماء المصريين»، وكتاب «بداية القدماء»، وكتاب «جغرافية بلاد الشام»، و»التعريفات الشافية لمريد الجغرافية»، وأسَّس مدرسة الألسن للترجمة. ولكن أشهر وأهم كتبه كان كتاب: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وعلينا ألا ننسى أنَّ المسرحية الأولى التي ترجمت إلى العربية كانت مسرحية «مأساة تليماك» والتي وضعت أساساً لتنبيه الخديوي إلى مخاطر الاستبداد بالحكم.‏

حين اشتغل الطهطاوي على الترجمة لم يكن يعرف أنه يفتتح حقلاً كان قد بوَّره الإهمال منذ قرون، وربما كان العرب قد انقطعوا عن الترجمة منذ العصر العباسي حين ترجموا عن الإغريقية معظم المعارف السابقة، ثم جاءت أجيال كانت أوروبا فيها قد غرقت في ظلمات القرون الوسطى، فلم يعد لديها ما يغري بالترجمة، وهكذا كان على الطهطاوي وهو من أوائل من اصطدموا بالحضارة الغربية عبر الفرنسية أن يوجد ويخترع المصطلحات الجديدة التي لم تعرفها العربية بعد، وأعترف أني وأنا أقرأ كتابه «تخليص الإبريز» قد أتعبني في مطابقة المصطلحات التي اخترعها مع الأسماء الجديدة التي صارت أعلاماً مثبتة في اللغة العربية، فمثلاً قدّم لي اسم بلد كبير سماه «ايتازونيا»، وكان عليَّ أن أقارع المصطلحات والمتقاربات والمتباعدات حتى أصل إلى أنه يعني ما نعرفه الآن بكلمة «الولايات المتحدة»، وهو قد استخدم اسمها بالفرنسية êtats unis، أما ميناء عشم الخير فقد دوَّخني حتى عرفت أنه يعني به ميناء رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا المعاصر وهو ترجم ترجمة مباشرة عن الفرنسية bon ospaire، وهناك الأمريكة الروسية!! أو المحكومة بالموسقو والموسقو أو الموسكوف كانو يعنون بها روسيا، ولكن الأمريكة الروسية!، ثم تذكرت أن إقليم ألاسكا كان مستعمرة روسية باعتها روسيا فيما بعد إلى الولايات المتحدة بثمن بخس، أما بلاد أبريزيله، فكان سهلاً اكتشاف أنها البرازيل، وبلاد بولويه كان سهلاً أيضاً اكتشاف أنها بوليفيا، ولكن بلاد «بلاطه» لم يكن من السهل معرفة أنها الأرجنتين لو لم يذكر معها مدينة بنوسيرس والتي نعرفها الآن بمنطوقها بوينس أيرس.. إلخ..‏

كان الطهطاوي شعلة القرن التاسع عشر في مصر يبحث عن حل لمأزق العالم الإسلامي الحضاري مساوقاً في ذلك مشروع محمد علي كما سيحاول الكواكبي ذلك البحث بعد بضعة عقود. ترى هل أحجم مفكرونا الآن عن محاولة إيجاد الحل لمأزقنا الحضاري المعاصر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية