|
ملحق ثقافي تفتحت ذهنيته و تخزنت فيها مشاهد لا تنتهي غنية بتفاصيل و مدركات احتاجت إلى استثنائية لتحولها إلى فعاليات مدهشة و ماثلة تحمل الجليل و النبيل في الفن الذي يعكس الصورة الإنسانية على شاكلة طاقة لونية و تكوينية تشكلت خطوطها بفعل إبداعي احتاج إلى الكثير من التفرد و التبصر الفني...
هو فاتح المدرس الذي نشأ في قرية" حريتا" بالقرب من مدينة حلب التي درس فيها حتى المرحلة الثانوية, حيث كانت حياته فيها مليئة, و غنية بممارسة الهوايات, فقد كان يرسم, و يكتب, و يعزف الموسيقى, و يمارس الرياضة. و رغم معارضة الأهل - عدا أمه - فقد كان تواصله بالدرجة الأولى مع الرسم الذي أحبه و شجعه عليه أستاذاه في المرحلة الثانوية " غالب سالم متخرج من أكاديمية الفنون / روما ", و المهندس " وهبي الحريري " , من الأول تعلم الأسس الأولية في اللون و جمالية الخط الإنساني على الورق..., و من الثاني تعلم الأناقة في الرسم و كيفية النظر للأشياء باحترام, و كيف يجاريها بشكل يتناسب و نظام الكون الدقيق كما يذكر... لقد درس الفن و تمرس فيه و أنتج بلغة ذات تركيبة فنية فريدة طبع بها أعماله في لحظة التحولات الفكرية في الفن و فلسفته, و استطاع أن يؤلف أدواته و يوالفها بجرأة فنية فيها الكثير من المخاطرة جعلته يقف في صف التشكيل المتقدم , مستنداً إلى ثقافته الفنية التي استمدها من خلال الانفتاح الملهم على الثقافة الغربية أثناء دراسته الأكاديمية في ( إيطاليا ) بين عامي 1954 - 1960, هذه الحداثة التي ولدها لم تكن بصورة غربية, بل استلهمت وجودها و كينونتها من الروح الشرقية. إن ثقافته العالية و ملكته الإبداعية الفريدة مكنته من توظيف استحضاراته في توليفات إبداعية, فنبش في الحضارات القديمة, و استخلص من الأسطوري نماذج أحياها و كساها بصبغته الجمالية و الإبداعية بفرادة و استثنائية, فخرجت على شاكلة كائنات تتهادى بسلاسة في محيطها اللوني, مشكلة حضوراً نوعياً, و هي تسمو في غناها الفكري و الكينوني باتجاه الرفعة الإنسانية بكل دلالاتها. بين الأسطورة و تسوية الحلم المشذب في الحكائية المنشودة ذات الدلالات المقترنة بتجيير الفلسفي في العمليات الابتكارية وفق رؤى إنسانية تتوالد على سطوح أعماله, تظهر لنا كائناته المنتصرة على أدوات خلقها, و هي تبوح بأسرار جثومها القلق فوق مسطحاتها التي تروي لنا في ثناياها أحلام و آلام مبدعها, و تعكس حساسيته بدرجاتها السامية. تلك الكائنات التي تظهر في تكويناتها خاشعة تحمل الحس الاستبصاري النافذ للعمق الإنساني, و تشرح من خلال حركاتها الداخلية بما تحمله من مشاعر و هواجس, القدرة الخلاقة للمشروع الفني ذي الفكرية المنفتحة على الحداثي بما له و ما عليه و لكن بشروط ابتكارية تعتمد الجدة و التجدد و الالتحام بما هو مفصلي في حركة التطور الفني, و ما يمكن أن يثير الدهشة و المشاعر الكامنة في الذات الإنسانية المتأملة... لقد أوجد لعناصره توليفات حيوية باحثة في الأجواء الحسية, و ألف من رموزها دلالات بنيوية قائمة على معطيات حداثية درسها و استوعبها و أفاد من معطياتها فوظفها في خدمة رؤاه ذات البعد الإنساني الذي يشكل محوراً هاماً في مسيرته التي منحها جل ما في روحه المسكونة بالتصورات اللامتناهية لعوالم يرها وحده و ينتج من خلال خباياها المثيرة أعمالاً تنبض بالحياة... إن تسلحه بغذاء فكري معرفي خلق له توازنات صاغها في علاقات تشكيلية خارقة للمألوف جعلته يقف كواحد من أهم التشكيليين العرب, و لأنه استطاع أن يماهي تمرسه الفني في صيغ حداثية بشروط استثنائية, فقد حق له أن يكون واحداً من رموز الحداثة في سورية, فاتح المدرس خبير المكونات التكنيكية في التشكيل المعاصر, و هو من خلال طاقاته الخلاقة المبدعة استطاع أن يوظف مخزوناته فيما هو بنيوي و ديمومي يستدعي الوقوف أمامه بخشوع و جلال.. وهو يقدم في نتاجاته رؤية تكوينية لها خصوصيتها لأنها حالة طقوسية تبعث في نفس المتأمل شعوراً بالدهشة, إن فيها رؤى اتصالية بعوالم تركيبية لا تطابق الواقعي لكنها تلازمه بشيء يشبه تداعيات بصرية وجدت لحمتها في نسيج الحكايات المتلازمة بأبعاد إنسانية تبحث عن عوالم فلسفية مفسرة للمنطقي و من ثم تأويله إلى حالة متفردة في غنائية منفتحة على كافة الجوانب ذات الصلة بما يلوح في دائرة الإنتاج الفكري و يندمج في الأطر الإبداعية... و قد نجد في الخط عبوراً باتجاه خلق من نوع جديد و خاص يدل على الإمكانية الحركية لذلك الخط الذي يتلون في سلوكه و تعبيراته, و يندمج في محيطه مشكلاً لحمة لا تنفصل عن التركيب العام لبناء اللوحة. و إذا كان الخط لديه يتحرك بسلاسة متناهية في كافة الاتجاهات, فإن من الجدير ذكره ذلك التمايز النوعي الذي تخلقه تلك الخطوط في المساحات التي تخلق مبررات و جودها من تلك الحركات الواثقة للخط المتزن و المبني على أساس من النبل الفني و الإحساس بدرجاته المتمايزة التي يصل إليها الفنان فقط في حالة التوحد مع الذات و الاندغام في عملية الخلق الاستثنائي... و المدرس يتبنى جماليات لونية قائمة على حدس إبداعي تميز و تفرد فيه, إذ أن اللون لديه يعبر عن الرغبة الجامحة في اختراق المألوف تجاه الدال الحقيقي على الإيقاعية المتزنة التي تقوم على الإدراك النوعي, و تبنى على أساس من الخبرة المتعمقة في فلسفتها, إنها أي الإيقاعية تضع العمل الفني في الميزان التذوقي عالي الحساسية الذي على أساسه تتحدد معايير التركيبات اللونية ليصبح الناتج في الوضع الأقرب للكمال في الخلق الفني, و هذه المعادلة تنطبق عندما يكون الفنان خارجاً عن المألوف في قدراته الخلاقة. و لذلك استطاع أن تكون لألوانه فلسفة خاصة تعكس شفافيته و حساسيته الداخلية لمختلف المظاهر الحسية المتجسدة في التأثيرت الضوئية و ما تخلفه من آثار و قيم كالإشباع و اللاإشباع و العتمة و النور... الخ, ربما المخزون الذهني لمشاهد الريف الذي نشأ فيه ولد لديه تلك الحميمية مع اللون مضافاً إليها إمكانياته و طاقاته الخلاقة. فاللون لديه يتميز بالغنى و يقوم على التجاورات التي تشكل في النهاية صيغة بصرية نافذة تؤول إلى مدلولات فكرية تعكس الحقيقة الاستقرائية التي تمثلها تلك التجاورات و قد بنيت على أسس تتحقق فيها المنظومة الرؤيوية بما تحمله من تناغم و انسجام و تباين... وللون ترتيلات تعكس رؤى إنسانية غنية بمشاعرها المتنوعة من حزن و فرح و رغبة و رهبة و ألم... تظهر من خلالها رغباته الجامحة للانفلات من كل ما هو مرئي بطريقة مباشرة إلى الولوج في عوالم لونية فيها من السحر و الدهشة الكثير الذي يدعو إلى التفكر و التبصر, و الحض على رؤية جديدة لعالم لوني مغمور بالأسرار و المشاعر المضطربة أحياناً, و مسكون بالرفعة و الدفء الإنساني أحياناً أخرى. لم تكن الحكاية وحدها تحيك عناصر الزمان و المكان لديه, لكنها رؤاه و تداعياته التي صاغت مما يدور في الخلد تركيبة فريدة لأفكار يولدها . وقد نجد في هذه الثنائية، ثنائية الزمان و المكان - خطين يسيران في اتجاه واحد, نحو انسيابية لا متناهية, فكلاهما يمهد للآخر و يشكل له معبراً نحو جدلية متناغمة تستمد مرونتها من عمق البحث للوصول إلى الجوهر في الروابط المشكلة للمعنى الرفيع في صياغة بصرية تشكيلية, فالمكان هو جزء من تركيبة بصرية نافذة في عمقها الفلسفي المستند إلى تداعيات و تراكمات بصرية و معرفية تبحث في الخلق التكويني لمجموعة العناصر التي يتركب منها العمل, و ذلك إيذاناً بالانفتاح على باقي التركيبة التشكيلية و منها الزمن الذي يتسع و يمتد بلا حدود متماهياً في كل مرة مع العمليات الإيلاجية للمكونات التي تطفو على سطح العمل موحية بإحساسات زمانية و مكانية في العوالم اللامدركة في النفس التي تؤلف تداعياتها دون تخطيط مسبق, لكنها تخرج هكذا من المظلم إلى النور فتصبح مدركاً بصرياً, و إن احتاجت إلى إحساس رفيع في أحيان ليتم تذوقها و البت فيما تعنيه و تؤول إليه، لكنها في عموميتها تشرح النفس و تثير المشاعر الكامنة... ببلوغرافيا الفنان فاتح المدرس: - ولد في قرية حريتا بالقرب من مدينة حلب عام 1922. - تلقى تعليمه في حلب, و روما, و باريس. - أصبح معيداً في كلية الفنون الجميلة عام 1961 . - أستاذ الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق. - عضو مؤسس في اتحاد الفنانين التشكيليين العرب. - عضو مؤسس في نقابة الفنون الجميلة في القطر العربي السوري, ثم نقيباً لها بين عامي 1981-1991. - عضو جمعية القصة و الرواية. - نظم معرضه الأول في نادي اللواء بحلب عام 1950. - أقام ما يزيد عن أربعين معرضاً شخصياً في سورية و البلدان العربية و الأجنبية. - شارك في العديد من المعارض محلياً و عربياً و دولياً. - مثل القطر العربي السوري مع زميله لؤي كيالي في بينالي البندقية عام 1960. - اقتنى له الدكتور فالترشيل رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية مجموعة أعمال عام 1963. - صدر له ديوان شعر بالعربية و الفرنسية مع شريف خزندار (القمر الشرقي على شاطئ الغرب) . - صدر له ديوان "الزمن الشيء" مع حسين راجي عام 1985. - مجموعة قصص بعنوان " عود النعنع " عام 1980. - له دراسة في تاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد. - له دراسة بعنوان "دراسات في النقد الفني المعاصر/ حلب عام 1952. - له مجموعة محاضرات عن فلسفة الفن و نظرياته عام 1600 ق. م. - حصل على العديد من الجوائز العربية و العالمية منها: (جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق عام 1952 عن لوحته " كفر جنة ", جائزة استحقاق من وزارة المعارف السورية, جائزة استحقاق و جائزة كرومباكر في جامعة كليفلاند / فلوريدا, الجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة / روما, الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي, جائزة الدولة التقديرية للفنون/ الأردن 1992, جائزة الشراع الذهبي من معرض الكويت الخامس للفنانين التشكيليين العرب...) - توفي عام 1999. |
|