تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الســـــاعة

ملحق ثقافي
الثلاثاء 3 /1/2006
فــــــراس ديــــــاب

لم تأت إذاً.. الساعة تجاوزت الثانية عشرة ظهراً. الوردة البيضاء بدأت بالذبول..علبة السجاير انتهت..ولم تأت ماريا،

أحس بالصداع قد بدأ يجتاح رأسي، أفتِّش في جيبي أين الدواء؟ بعد دقائق ستأتي نوبة الصرع، أين أنت يا ماريا..أدركيني سأقع في الساعة..كيف سأنجو منها إذا سقطت فيها..سيظن الناس بأنني سكير عربيد..كيف نسيت الدواء..كيف؟‏

المطارق تضرب في دماغي والطبول تزمجر..أضع كفي على أذني..وأصيح (ماريا..ماريا). يتنبه إلي عاشقان قريبان..ربما يقولان: ما هذا المجنون الذي يصيح باسم حبيبته. تسقط الوردة البيضاء من يدي على المقعد الأخضر، أنادي: يا ماريا..يا ماريا، الصداع يزداد شدة، يكاد أن يحطم رأسي ألما، اقتربت ساعة السقوط، سأقع بعد قليل في الساعة. ماريا تنهض أمامي من الوردة البيضاء عروسا بثوبها الأبيض وأنا أتضاءل..أتضاءل..أغيب عن الوعي، لا أدري كم مرّ من الوقت علي وأنا في هذه الحالة..أتحسس جسمي وأقوم متهالكا متعبا..أدور حولي..أرفع رأسي فأرى قبة بلورية تعانق المكان. ما هذا المكان العجيب، أين أنا..لست في بيتي، أنا متأكد لا أرى اخوتي، ولا أرى غرفتي المحشوة بالكتب والجرائد..كما أنني لست في المصنع، لا أسمع ضجيج الآلات ولا صراخ العمال..ولا أرى أبا فهد يناديني كأسا من الشاي ويقول لي: اشرب..غدا سسيفرجها ربك..وأنا أقول له: إنني ممنوع من شرب الشاي يا أبا فهد إنه يضر بصحتي. أين أنا إذا؟ الأرضية مصقولة ناعمة تصلح للتزلق عليها، والجدران خفيضة جدا ولا يوجد فيها أي نافذة أو باب، ولا يبدو أمامي سوى هذه القبة الغريبة كأنها قبة السماء في ليلة مقمرة..أشعر بضيق شديد في تنفسي، أكاد أختنق ..ماريا يا ماريا..أين أنت؟ أدركيني يا إلهي ما هذه المروحة الضخمة التي لا تكف عن الدوران..إنها تجبرني على خفض رأسي كلما مرت من فوقي..ما هذه الذراع التي أجلس عليها..هل هي ذراع رافعة أم ماذا؟ صدقوني أنا لم أفعل شيئا لأحد..ما الذي وضعني في هذا المأزق اللعين، إنني لا أستطيع تحريك جسمي النحيل، يبدو أنني مربوط بشريط خفي..يا إلهي هل هذا حكم بالإعدام من نوع مبكر..ماريا..ماريا..أنا ليس لي اسم سواها..أكاد أسمع صوتها يناديني..أيمن..أيمن..التفت حولي فأرى ذراعا طويلة تقترب مني.. وألمح وجه ماريا.. إنها هي.. جالسة على الذراع الطويلة، الذراع تقترب مني ووجهها الباسم يقترب، يقترب الأمل.. الفرح.. الحياة الحلوة كلها تقترب.. إنها تمد يدها.. أمد يدي.. أصافحها.. الأصابع تتشابك، أبقينا أصابعنا متشابكة وسألتها: - أين كنت .. وكيف غبت عني يا ماريا. ألا تعلمين أنك رمقي.. حلمي الذي أحيا به.. - أنا هنا يا حبيبي، لا تبتئس، ما أبعدني عنك إلا الزمن. قلت لها بلهفة المشتاق: - أين نحن يا ماريا.. ما هذا الشرك الذي نصب لنا.. أجابتني: - لم تدرك بعد أننا وقعنا في الساعة.. صار الزمن بيتنا.. أحبنا الزمن فحبسنا في ساعته.. - إذا كان السجن معك فهو أجمل السجون.. ظلت يدي في يدها الدافئة تغمرني أمواج من الفرح.. والغبطة. الزمن جميل معها.. ما أجمل الزمن زمننا.. زمن الحب واللقاء.. بعد قليل بدأنا نحس بأيدينا تبتعد عنوة.. وبدون رغبة منا، قالت لي دامعة العينين: -إنه وقت الفراق. قلت: - كيف ذلك، هل هذا اللقاء لقاؤنا؟ - سنلتقي بعد ساعة كهذا اللقاء ثم نفترق كهذا الفراق.. هذه قوانين الساعة سنلتقي في كل ساعة دقيقة واحدة.. قلت لها دامع العينين: - دقيقة واحدة تكفي لكي أعيش ساعة على أمل اللقاء في الساعة التالية.. عقرب الثواني يتابع دورانه الحثيث فوق رأسي، بعد ساعة من اللهفة والشوق التقينا مرة ثانية. - اشتقت إليك يا أيمن. - فأجبتها: -أنا في شوق دائم إليك.. ما أجمل السجن معك، هنا لا أهلك يمنعونني عنك ولا أهلي.. هنا لنا عالمنا الأثير.. عالمنا وحدنا.. كأننا آدم وحواء في الجنة. لا يزعجنا إلا عقرب الثواني اللعين. ماريا تبتسم: -سيكون شاهدا على عقد قراننا فقلت فرحا: -سنعقد قراننا في اللقاء القادم..سيكون العقرب اللعين شاهدنا الوحيد، مرة أخرى افترقت أيدينا بالرغم منا..وابتعد وجهها عني أما عقرب الثواني فقد ظل يتابع دورانه الحثيث فوق رأسي، فجأة توقف العقرب اللعين عن الدوران. انتظرت طويلا فلم يتحرك..مر وقت طويل ولم ألتق بماريا..الشوق إليها يحرق قلبي وأعصابي، ما الذي حدث، لقد توقف كل شيء في هذا المشهد عن الحركة، بعد قليل أدركت لعبة الساعة. لقد سقطنا في هذه اللعبة وهي الآن واقفة عن العمل، إنها بحاجة الى من يربط الزنبرك.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية