تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في الذكرى الأربعين لرحيل عميد الأدب الإنكليزي ماهـــي وظيفة الشــــعر عـــــند «ت. س. أليوت»؟

ملحق ثقافي
الثلاثاء 3 /1/2006
ترجمة وإعداد:صفاء شاهين

توماس ستيرن أليوت (8881- 5691): شاعر أميركي هاجر إلى إنكلترا وتجنس بالجنسية البريطانية، ويعد من أعظم شعراءعصره وصاحب أول مدرسة إنكليزية للنقد الجديد، ويطلق على عصره في الأدب عصر «ت.س.أليوت».

يعتقد توماس ستيرن أن وظيفة الشعر تختلف باختلاف العصر الذي يعيش فيه الشاعر وذلك طبقاً للمعايير الأدبية السائدة في مجتمعه، ففي القرن التاسع عشر في إنكلترا نجد أن الفكرة الشائعة عن شيلي- عند معظم النقاد أنه ينادي بأن الشاعر هو الذي يشرع للناس قوانينهم، ولو بطريقة غير مباشرة ويفسر مظاهر الحياة بل أنه نبي من الأنبياء الذين يبشرون بيقظة الناس لإحداث تغيير أفضل في عقائدهم وعاداتهم الاجتماعية. وإذا كان شيلي ينوه بأن الشعر الأصيل يكون دائماً مصحوباً بثورة أو تغيير في عقائد الناس وعاداتهم الاجتماعية فإن تاريخ الأدب الإنكليزي يثبت أن هذا غير صحيح فقد ازدهر الشعر الرومانتيكي في القرن التاسع عشر في إنكلترا في وقت كانت التيارات الاجتماعية يغلب عليها الطابع المادي والنفعي، والمعروف أن الحركة الرومانتيكية تناهض مثل هذه الاتجاهات الاجتماعية وتغلب عليها النزعة الفردية، وربما كانت النزعة الهروبية في بعض هذا الشعر ترجع إلى رد الفعل الذي أحدثته مثل هذه التيارات، وربما كان لذلك أثره في مضمون الشعر ومادته ولكن ذلك لايؤثر على جودة الشعر أو عدم جودته. وعلى هذا الأساس ينتهي أليوت إلى أن الشعر نفسه ليس عاملاً من العوامل التي تساعد على إحداث ثورة في عقائد الناس أو أنه نتيجة مباشرة للتقاليد الاجتماعية. فقد يكون الفنان من المؤيدين أو المعارضين لتيارات العصر، أو قد يكون غير مكترث لإحداث مجتمعه، وهذا لايجعله من الشعراء الخالدين أو غير الخالدين. والحقيقة الثابتة هي أن شيلي يؤكد أن ثمة نوعاً من العلاقة بين الشعر وبين أحداث العصر بمعنى أن أحداهما يوضح الآخر ويلقي ضوءا عليه، وهذه النظرية أول نظرية في رأي أليوت في القرن التاسع عشر. أنواع الشعر: وقبل أن يتحدث« أليوت» عن وظيفة الشعر الاجتماعية يقسمه إلى عدة أنواع، فالشعر التعليمي يزود القارىء بالمعلومات عن موضوع محدد ويهدف إلى تهذيب الأخلاق، فالشاعر فرجيل يكتب عن الزراعة وينقل إلى القارىء معلومات معينة عن هذا الفن، ولكن هذا الموضوع لا يمكن أن يعالج في الشعر الحديث وميدانه الحقيقي هو النثر لا الشعر لأن هذا الموضوع قد أصبح من الموضوعات العلمية المعقدة، وهذا ينطبق أيضاً على شعراء الرومان الذين يكتبون عن علم الفلك والأجرام السماوية. ومن هنا يقول «أليوت» في صراحة: «القصيدة التي يكون هدفها المباشر نقل المعلومات قد حل محلها النثر في الوقت الحاضر». والدليل على ذلك أن وظيفة الشعر التعليمي قد اقتصرت -تدريجيا- على الحث الأخلاقي أو محاولة إقناع القارىء بوجهة نظر الشاعر فيما يتعلق بمسألة من المسائل الاجتماعية أو السياسية مثل الهجاء، فبعض قصائد الشاعر جون درايدان في القرن السابع عشر تعتبر هجاء بمعنى أن المقصود منها هو السخرية من المواضيع التي يوجه الشاعر اهتمامه إليها، أو أنها محاولة لإقناع القارىء بوجهة نظر الشاعر، وفي القرن التاسع عشر نجد انكلترا أن كثيراً من شعر شيلي يرجع إلى تحمسه للإصلاح الاجتماعي والسياسي. وظيفة الشعر: وللشعر الدرامي وظيفة خاصة به، فبينما نجد أن معظم الشعر في الوقت الحاضر يكتب ليقرأه القارىء في أوقات انفراده، نجد وظيفة الشعر الدرامي هي ترك أثر جماعي في مجموعة من الناس يشاهدون مسرحية شعرية تمثل على المسرح، وبالطبع يختلف الشعر الدرامي عن بقية أنواع الشعر لأن قوانينه مندمجة مع قوانين الدراما بصفة عامة. وللشعر الفلسفي وظيفة خاصة به ولكن وظيفته تحتاج إلى تحليل تاريخي مطول، إلا أن من الواضح أن وظيفة كل نوع من أنواع الشعر تربط بوظيفة خارجة عنه، فالشعر الدرامي ترتبط وظيفته بالدراما، والشعر التعليمي يرتبط بوظيفة الموضوع نفسه وهي المعلومات، والشعر الفلسفي أو الديني أو السياسي أو الأخلاقي يرتبط بوظائف هذه الموضوعات متنوعة. ولكن وظيفة أي من هذه الأنواع لا توضح وظيفة الشعر بمعناه الحقيقي وبصفته فنا من الفنون المستقلة لأن جميع هذه الموضوعات يمكن أن يعالجها النثر، ويوضح « أليوت» ما يقصد إليه قائلاً إن القارىء قد لا يرتاح إلى الشعر الذي يهدف إلى هدف واضح محدد عندما يؤيد الشاعر في شعره وجهة نظر معينة بطريق التقرير لا الإيحاء سواء كانت وجهة نظر اجتماعية أو أخلاقية أوسياسية أو دينية، بل إن القارىء قد يعترض على أصالة مثل هذا الشعر خصوصاً إذا كانت وجهة نظره تتعارض مع عقائد الشاعر نفسه. ويعتقد« أليوت» أن محاولة الشاعر أن يستخدم شعره لتأييد وجهة نظر اجتماعية معينة أو مهاجمتها مسألة لا تدخل من المرتبة الأولى والدليل على ذلك أن الشعر الرديء قد يكون ناجحاً بصفة مؤمنة عندما يتعمد الشاعر أن يعبر في شعره عن الاتجاهات السائدة في عصره ليرضي أكبر عدد ممكن من قراء الشعر، أما الشعر الحقيقي فهو الشعر الذي يظل حياً يتذوقه الناس ويفهمونه حتى بعد أن يحولوا اهتمامهم عن المسائل التي كان يهتم بها الفنان أو يكترث بها ويعكسها في شعره. ومن هذه النقطة بدأ« أليوت» في النظر إلى وظيفة الشعر الاجتماعية بمعناها الواسع، فالشاعر الأصيل لا بد أن يقدم لنا شيئاً إلى جانب المتعة الفنية، أي أنه إلى جانب الموضوعات التي سبق ذكرها، فإن الشعر دائماً يقدم لناتجربة من نوع جديد،نحاول أن نفهم بها -بطريقة جديدة- ما هو مألوف لنا، فالشاعر يعبر لنا مثلاً عن تجربة قد يكون القارىء مر بها وخبرها، ولكنه لا يستطيع أن يعبر عنها تعبيراً كاملاً حتى ولو بلغة النثر، ومثل هذا الشعر الأصيل هو الذي يوسع مداركنا ووعينا ويهذب حساسيتنا. الشعر واللغة: لا شك أننا جميعاً نفهم المقصود بالمتعة الفنية في الشعر، ولكن بعضنا قد لا يفهم نوع التغيير الذي يحدثه الشعر في حياتنا بصفة عامة، وهذان الأثران هما اللذان يميزان الشعر عن بقية النواحي الثقافية الأخرى. إن لكل شعب من شعوب العالم شعره الخاص، ولهذا الشعر قيمته الخاصة، لا بالنسبة للذين يتذوقون الشعر فقط، ولكن لجميع أفراد المجتمع لأن الشعر في الواقع يحدث نوعاً من التغيير في المجتمع بأسره حتى بالنسبة للذين لا يتذوقون الشعر ولا يعرفون أسماء شعراء بلادهم. ويختلف الشعر اختلافاً أساسياً عن أي فن آخر وذلك بالنسبة لقيمته لدى جمهور الشاعر ولغته القومية، فالموسيقا أو الرسم مثلاً من الفنون ذات الطابع المحلي مثل الشعر ولكن طابع الشعر أكثر عنصرية منهما بمعنى أن الصعوبات التي تصادف الأجنبي الذي يتذوق هذين الفنين (الرسم والموسيقا) أقل بكثير مما يصادفه في تذوق الشعر، وللمؤلفات النثرية معنى خاص في لغتها الأصلية ولكنها قد لا تفقد الكثير من هذا المعنى إذا ترجمت بلغة أخرى. أما الشعر، فإن طابعه المحلي أو العنصري يكون عائقاً يحول دون ترجمته ترجمة تؤدي معناها الأصلي، فنحن نشعر أن القصة المترجمة أسهل في تذوقها وقراءاتها من القصيدة المترجمة حيث أنها قد تفقد الكثير من معناها بعد ترجمتها وقد يكون ضياع المعنى ضئيلاً جداً بالنسبة لمؤلف من المؤلفات العلمية، وتاريخ اللغات الأوروبية يثبت أن للشعر طابعاً محلياً أكثر من النثر، فاللغة اللاتينية منذ عدة قرون ظلت لغة الفلسفة واللاهوت والعلم، والشعر هو الذي أثار الناس أن يكتبوا بلغتهم وأدى إلى استخدام اللغات المختلفة -التي نشأت عن اللاتينية- استخداماً أدبياً يختلف باختلاف كل شعب من الشعوب، وهذه مسألة طبيعية خصوصاً إذا تذكرنا أن الشعر ميدانه الحقيقي هو التعبير عن العواطف والمشاعر، والعواطف والمشاعر من الخصوصيات، بينما الفكر والنثرمن العموميات، ومن الأسهل أن نفكر بلغة أجنبية عن أن نشعر بها، أي أن للشعر طابعاً قومياً أكثر من أي فن آخر، وكان «أليوت» يعتقد بأن أي لغة من اللغات قد يكون مصيرها الزوال والفناء، وتفرض على متحدثيها لغة أخرى، ولكن ما لم يتعلم الناس كيف يشعرون بهذه اللغة الجديدة، فإن اللغة القديمة لن تموت وسيعود ظهورها في الشعر وهو أداة العاطفة والمشاعر. وبالطبع هناك فرق بين الشعور باللغة وبين التعبير عن المشاعر بلغة جديدة، فالفكرة التي يعبر عنها بلغة أجنبية قد تكون نفس الفكرة تماماً بلغتها الأصلية، ولكن العاطفة إذا عبر عنها بلغة أجنبية لا تكون نفس العاطفة إذا عبر عنها بلغة أخرى، ومن الأسباب التي من أجلها يتعلم المرء لغة إلى جانب لغته القومية أننا نريد شخصية أخرى تكمل شخصيتنا، ومن الأسباب التي من أجلها لا نريد أن نتعلم لغة جديدة بدل لغتنا أن المرء لا يريد أن يصبح شخصاً آخر، ويقول «أليوت»: «إن اللغة الشائعة لدى جميع الطبقات -لذلك- هي أفضل أداة للتعبير عن العاطفة والشعور، فبناء القصيد، والصوت والموسيقا، والتركيب اللفظي، كلها تعبر عن شخصية الناس الذين يتحدثون بهذه اللغة». ويعتقد «أليوت» أن واجب الشاعر -بصفته فنانا- واجب غير مباشر تجاه جمهوره، أما واجبه إزاء لغته القومية فهو واجب مباشر، فعليه أن يعمل على بقائها وتطويرها في شعره. ويؤكد «أليوت» هذا المعنى بقوله: «إن الشاعر إذ يعبر عما يشعر به الآخرون إنما يغير هذا الشعور بزيادة وعي الناس له، وهو يجعل الناس أكثر وعياً بما يشعرون به سلفاً ولذلك فهو يعلمهم شيئاً عن أنفسهم ولكن الشاعر ليس مجرد شخص أكثر وعياً أو حساسية من الآخرين بل إنه يتميز من الناحية الفردية عن غيره من الناس وغيره من الشعراء أيضاً، ولذلك يستطيع أن يجعل قراءه يشاركونه مشاعر جديدة لم يجدوها من قبل، وهذا هو الفرق بين الشاعر الحقيقي وبين الشاعر المجنون، فالأخير قد تكون لديه مشاعر ذات طابع فريد لا يستطيع القراء أن يشاركوه فيها ولذلك فهي مشاعر عديمة القيمة أما الشاعر الأصيل فهو الذي يكتشف تنوعات مختلفة في الحساسية يستطيع الآخرون أن يفيدوا منها، وبالتعبير يستطيع الشاعر أن يطور لغته القومية وينميها». إن اللغة تستمر في تطورها، وتتغير طريقة حياتنا تحت ضغط الظروف المادية في بيئتنا بكل طريقة من الطرق، وما لم يكن بيننا بعض الذين يجمعون بين الحساسية وبين التمكن من اللغة للتعبير عن هذه الحساسية فإن قدرتنا على التعبير وعلى الإحساس سوف تتدهور، وليس من المهم أن يكون للشاعر جمهور كبير في عصره إذ إن تأثير الشعر -في النهاية- يمكن أن يمتد إلى آفاق بعيدة، فهو يحدث تغييراً في حياة جميع أفراد المجتمع وحساسيتهم وكلامهم حتى ولو كان بعض هؤلاء الأفراد لا يقرؤون الشعر ولا يتذوقونه، ولكن تأثير الشعر مسألة غير مباشرة تحتاج إلى دراسة فنية دقيقة. إن ما يميز «أليوت» عن نقاد عصره الرومانتيكيين في انكلترا هو أنه كان يعتقد أن الشاعر العظيم هو الذي يسجل ذاته ويسجل عصره في آن واحد، إلا أن تصوير العصر لا يأتي بطريق التعمد لأن الشاعر لا يوجه اهتمامه الأول إلى الفكرة أو الموضوع الذي يفترض أن تقوم عليه القصيدة، فالشعر ينبع من العاطفة لا الفكر، وإذا شعر الفنان بحاجة إلى التعبير عن فكرة، فإنه لا بد أن يكون قد شعر بهذه الفكرة أو لا وأحسها أي أنه يحولها إلى إحساساته. والشاعر يخبر الحياة بطريقة معينة وتتسرب التجارب المختلفة في عقله الخلاق وتكون وحدة متكاملة ويحتاج الفنان إلى أن يبرزها إلى حيز الوجود في إطار فني، وهو يشعر بدافع خفي إلى أن يرسم هذا الإطار. ومعنى هذا أن التجارب تكون قد تبلورت بطريقة غير واعية ولكي يجسم هذه الرؤيا لابد أن يوجه اهتمامه الأول إلى التكنيك أي إلى الاعتبارات الفنية التي تقرر نجاح القصيدة أو فشلها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية