تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


محطـــات ثقـــافية

ملحق ثقافي
18/4/2006
فايز خضور

في كتابه «حديث الأربعاء» يَعتبر الأديب طه حسين أن شخصية «مجنون ليلى» شخصية خرافية، فكيف به مع قيس لبنى بن ذريح، إلا أن الحياة الغرامية لاتكترث بالتكهنات، وقد أعلن العصر الأموي عن إطلاق «عقيدة التوحيد في الحب» التي رفع بناءها جميل بثينه، وكثير عزّه.

وإن هي إلاسنوات حتى انتقل ميدان الصراع من الشام إلى بغداد العباسية حيث ظهر شاعر يتصوف في الحب وهو العباس بن الأحنف إمام العشاق الشرفاء في ذلك العصر، ورافع راية الوجدان، في الزمن الذي كان فيه الحسن بن هانىء«أبو نواس» إماماً للشعراء الفضَّاحين، إذ قال عنه أحد النقاد: ما عرفت الحضارة الإسلامية أفتنَ من أبي نواس، فهو أخطر شاعر في التاريخ الإسلامي..!! وهنا ظهرت قوة شاعرنا العباس، عليه سلام الحب. فالعفاف قوة سلبية، والتغني به لايلائم الطبيعة البشرية المادية، إلا إذا كان المغنيِّ على درجة كبيرة من القوة الروحية التي تقتلع جذورَ الشهوات,وترفع النفوس إلى الطهر الذي دعا إليه الأنبياء، عليهم سلام الله..!! إن هوى المغني من هوى السامعين، والتجاوب شرط أساسي في الأعمال الأدبية والفنية. والعباس بن الأحنف حارب وانتصر، وحارب خصومُه وانتصروا. لأن الميدان اتسع لطوائف من المحاربين، وهو الميدان الذي اشتجرت فيه بواعث الإثم،ودواعي العفاف.«فقد تباعدت واتسعت أهواء أبي نواس، وتوحَّدَ هوى العباس، لحكمة أرادها الله»، في تخليد مواهب شاعر العفاف والكتمان- كما يحلو لأبي الفرج الأصفهاني أن يقول. فالهوى المعقَّد يوقظ القريحة، ويبعث غافيات الأماني. بينما الهوى الموحَّد، قد ينتهي إلى الملال، إلا إذا كان الشاعر من دعاة التوحيد في عبادة الجمال. والعباس بن الأحنف قضى عمره كله في التغني بمعشوقةٍ واحدة هي «فوز». وقد أجمع النقاد على أنه أعظم المتفوقين في الفن الواحد. وقد قالوا: الشاعر العفيف هو شاعر بغداد الأول، والشاعر الفاجر هو شاعر بغداد الأول، والشاعر الثائر هو شاعر بغداد الأول. فكيف قد تم لهم ذلك التصنيف والتوصيف ويشهدون على ذلك واقعَ الحال، أي«الظاهر» دون السعي، أو المساس بما وراءه..؟!. فالشاعر العفيف لديهم هو العباس بن الأحنف، والشاعر الفاجر هو أبو نواس، والشاعر الثائر هو الشريف الرضي.فهؤلاء الثلاثة كانوا يمثلون اختلاف الطبيعة البغدادية أصدق تمثيل ولهم أنداد كثيرون، لامجال لذكرهم في هذه المحطة..!! من مميزات العباس حلاوة الحديث وقد وصفه أحد معاصريه فقال:«كان والله ممن إذا تكلم لم يحب سامعُه أن يسكت، وكان فصيحاً جميلاً، ظريف اللسان، لو شئت أن تقول: كلامُهُ كلُّه شعرٌ، لقلت.»... إنها العذوبة حتى الافتتان وقد صورها ابن الأحنف بقوله: أتأذَنون لصبٍّ في زيارتكمْ/ فعندكمْ شهواتُ السمعِ والبصرِ.». إلى جانب إجماع من ترجموا له بأن شعره كان أوفى الأشعار حظاً بالغناء، وله قصيدة محظوظة في زوارق الغناء،يقول فيها: نامَ من أهدى ليَ الأَرَقَ، مستريحاً زادني قَلَقَا/ لو يبيتُ الناسُ كلُّهُمُ، بسهادي بيَّضَ الحَدَقَا/ كان لي قلب أعيش بهِ، فاْصطلى بالحبِ فاْحترقَ/ أنا لم أُرزَقْ مودتكُمْ، إنَما للعبد مارُزِقَ./. وقد وُصف العباسُ الفوزيُّ بأنه كان: ظاهرَ النعمة ملوكيَّ المذهب، حُلواً مقبولاً، وكان من الشرفاء،وبأنه لم يكن من المدّاحين، ولا الهجّائين.فقد وقفَ شعرَه على فن واحد هو الغزل. ولم يكن يتجاوزه إلى فنون أخرى. وقد اتصل العباس بالرشيد، فألفه الرشيد ودعاه إلى صحبته في خروجه إلى خراسان، ثم خرج إلى أرمينية والعباس معه، فقال في ذلك أبياتاً جاء فيها: مضى الذي كنت أرجوه وآمُلُه، أما الذي كنت أخشاهُ فقد كانَ./ عينُ الزمان أصابتنا فلانظرتْ، وعُذِّبتْ بصنوف الهجر ألوانا/».فقال له الرشيد: قد اشتقتَ ياعباس, ثم أَذِنَ له خاصةً بالرجوع..!! فعاد منفرداً إلى شرنقته التي يهوى.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية