|
معاً على الطريق هل يتوقف الأمر عند ذلك؟ يبدو أن هناك عوالم خفية تلمع في حياتنا كالبرق فتنذرنا بأمطار ورعود، وأحياناً تنصب فوق رؤوسنا فتحرق. هذه العوالم الخفية تناولت حتى الآن بالتسميات والمدلولات أكثر من الشروحات الحاسة السادسة، والتنبؤ، والعين الثالثة، وغيرها، فهذه جميعاً تظل من الأسرار التي لم يكشف العلم إلا عن جوانب ضئيلة منها قابلة للتصديق والاحترام، أو للتكذيب والإهمال، أو يحكم عليها بالإعدام لأنها تظل رغم كل شيء غامضة ومبهمة، والإمساك بخيوطها أمر غاية في الدقة، ويحتاج الى رهافة في الحواس جميعاً، والى يقظة وانتباه عميقين، أو تتبع النبضات الخفية واللمسات الظاهرة التي تنبئ عن هذه العوالم الخفية. هل سبق وأن سألت نفسك لماذا تراجعت عن قرار اتخذته دون سبب مباشر معروف لديك؟ أو هل سبق لك أن أقدمت على مشروع مجهول لديك بدافع غامض؟ إذا كانت إجابتك بنعم حيث أنك وفرت على نفسك فشل قرارك، أو ربحت مشروعك فهذا يعني أن حدسك كان في مكانه. هذه نماذج من فيض من أسئلة كثيرة يطرحها الباحثون في سعيهم لتفسير ظاهرة الحدس عند الإنسان عبر اختبارات واستمارات قد يهتم بها موظف بسيط في توازٍ مع سياسي كبير، أو ذو منصب رفيع، أو صاحب ثروة ينفعه حدسه في تقدير الأمور أكثر مما ينفعه موقعه في تسيير الشؤون. ولكننا نتساءل: هل يكفي الحدس صاحبه في اتخاذ القرار أم أنه يتلازم مع العقل؟ بل إنه يتلازم معه لأنه يصدر عنه كما لو أنه استقراء لصفحات مخفية لا تكون بالضرورة للشخص ذاته بل يمكن أن تكون لأناس آخرين. فالحدس إذن يتعامل مع حقيقة الأشياء في الوقت الذي يقوم العقل بالربط بين المعلومات الخاصة بهذه الأشياء. ونتساءل أيضاً عن سر أو ماهية هذا الصوت الداخلي الذي ينبئنا بحقيقة الأشياء: هل هو الحاسة السادسة أم أنه يفترق عنها؟ الحقيقة أنه جانب منها وليس هي، وهو ينبثق عن فطرة الإنسان الواعية إلا أن البيئة والظروف الحياتية قد تطمس هذه الموهبة أو تبلورها. وإذا كان العقل البشري يعتمد تجميع المعلومات، وتحليلها للوصول الى النتائج التي تخضع في صحتها أو خطئها الى المعلومات أصلاً فإن الحدس يقفز الى نتائجه الصحيحة متجاوزاً ساحة المعلومات تلك، ولو أنه يحيط بملامح منها. ومَنْ هم أولئك الذين يملكون حدساً سليماً؟ إنهم من الأطفال أحياناً وهم يستشعرون من يقبل عليهم بحب، أو هم من أصحاب المشاريع الكبيرة وهم يتحرون حدسهم في استقراء ما يحيط بهم، وهم أيضاً أناس بسطاء يعيشون بفطرتهم السليمة، أو رجال شرطة، أو حتى ممن يلعبون الورق. ونستطيع أن نقول إن الحدس هو الصدمة الأولى التي يتلقاها مَنْ لديه هذه الملكة في تحديد موقفه من أمر ما، ودون هامش كبير للخطأ، وكأنه أي الحدس يفتح أمام المرء باباً في استقراء المعلومات بما يصعب معه تفسير هذه الظاهرة بأكثر من أنها معلومات غير مدركة في العقل الواعي، إلا أنها مرت من خلاله فيستدعيها الوعي في موقف ما لتسعفه عبر الحدس بالجواب الصحيح. إنه الحدس هو الذي يجعلك تظن أنك تعرف مكاناً ما وأنت تزوره للمرة الأولى، وأنك تعرف هذا الشخص الذي التقيته لأول مرة للتو، وهو الحدس ذاته الذي يجعلك تحسن الظن في مَنْ لم يسبق لك أن تعاملت معه، وكأن هذا الحدس هو دليل يرشدنا الى الأشخاص كما الى الأماكن، أو الأشياء ونحن نتحرى مشاعرنا العميقة. فهل سنكون أكثر سعادة لو تتبعنا حدسنا مادام يفتح لنا أحد هذه العوالم الخفية التي تحتوي على كنوز النفس البشرية؟ |
|