|
دراسات يحضرني وأنا أسمع وأرى بعض ما يجري من أحوال عالم اليوم لو أن جدي عاش في هذا العصر, هل كان سيشتكي من زمنه? أم سيحسد نفسه, ويقبض على زمنه في ذاكرته ويحيطه بالسرور والغبطة.? بعد أن يعلم أنه عاش زمناً مقبولاً قياساً إلى زمننا هذا. ولا أجد تفسيراً معقولاً لمسألة أجدها إشكالية بحق, إذ كلما وقعت في دوّامة القهر والسؤال ومتابعة ما يجري في هذا العالم المجنون الآن أستحضر في ذاكرتي جدي وحكاياته!.. غالباً ما كان يقول لي (حاميها حراميها) ويقول( دود الخلّ منه وفيه) ويقول( اللي ببيع وطنه عليه بيع عرضه).. ولم أكن أفهم على وجه الدقة ماذا كان يعني..! إلى أن مضى بي العمر, وبيّضت التجارب والمحن ذؤابتي, وعايشت وطناً يتسرّب من بين أصابعنا ونحن نتفرّج, وعشت حروباً وغزوات, وعاصرت انقلابات وفتناً,واستطعت بفعل معجزة أن أبقي على توازني وتأقلمي مع كل حال جديد, سواء كان قاسياً أو مرعباً أو ظالماً, أو حتى سعيداً وفرحاً.. لكنني في هذه الحقبة بالذات, لا بد أن أعترف بأنني لا أستطيع فهم ما يجري, ولا أستطيع إيجاد أي تفسير منطقي أو معقول لفهم هذه الغرائب والعجائب التي تجري. لقد أدركنا جميعاً منذ وقت طويل جداً بأن هناك مؤامرات تحاك خارج أسوار وطننا لاستلابنا واستلاب وطننا العربي بخيره وثروته وبشره وحجره, وطمس هويتنا القومية ولحمتنا العربية وتراثنا الديني والتاريخي, وكانوا يتهموننا دائماً بأننا نعاني من عقدة المؤامرة..! ولا أتصور أن أحداً في مجتمعاتنا لا يدرك هذا الأمر ولا يعرف أبعاد المجريات التي ستؤدي لا سمح الله إلى تحقيق أحلام المتربصين بنا غدراً وطمعاً. لكن السؤال الأهم.. ماذا فعلنا لمواجهة هذا الحشد المتربّص بنا..? قد لا أخرج عن الحقيقة إذا قلت إن كل مافعلناه لم يكن أكثر من ردود فعل متواضعة لمظاهر أفعال كبيرة, كثيراً ما أغرقتنا في دوّامات الحيرة, وأعملت فينا تمزيقاً وفقراً وقهراً, ومضت إلى أبعد من ذلك وهي تعمل على تفتيتنا, وتوسيع الشقّة بيننا كأخوة وأبناء عمومة وخؤولة ليسهل افتراسنا واحداً تلو الآخر تحت يافطة استسلام مهين. ولو أعملنا فهمنا ودراستنا لوجدنا أنه يأتينا من جهات ماكّفت يوماً عن نصب العداء لنا, حتى أنها قامت بزرع كيا ن غريب وسطنا كي تبطش بكل من يقول لا..! نقول هم أعداؤنا.. أما أن يكون( دود الخل منه وفيه) وأن يخرج من بين ظهرانينا من يناصبنا العداء هكذا دون مبرر ودون حجة اللهم تنفيذاً لوصايا أسياده( أعداؤنا ذاتهم) فهذا أسّ البلاء وأيم الحق. في لبنان الجار الشقيق تقوم معارضة سياسية, وهذا ما أعتبره ظاهرة صحية جداً فالمعارضة رقيب على السلطة, ومصححة لمسارها الحركي السياسي والاجتماعي, وهي ضرورة وواجبة, ومظهر حضاري وإنساني بكل الأبعاد والمفاهيم. ولكن أن تظهر من قلب المعارضة معارضة فهذا أيضاً من غرائب الأمور. والأغرب هو أن من يمثلون هذه الشريحة هم أوقدوا فتنة الحرب الأهلية, وهم من قطّعوا أوصال الشرفاء, وفخخوا ولغموا وخطفوا وحجزوا ونهبوا وسرقوا, وأقاموا الأحلاف والصداقات وواجبات الطاعة ل( إسرائيل), وهم الحلفاء المخلصون ل( إسرائيل) في غزوها وحربها, وكثيراً ما أعلنوا صراحة بأن( دولة أوروبية مستعمرة) هي أمّهم ووليّة أمرهم, وهم الذين شكلوا ما يسمى حكومة لبنان في المنفى واختاروا لدواعٍ أمنية أن تكون في القدس المحتلة, وهذا كله ليس بسرّ , بل هو أفعال كانت على الملأ ويعرف بها القاصي والداني, وكثيراً ما علت أصوات الشرفاء في لبنان ( وهم كثر بحمد الله) لمحاكمتهم ومعاقبتهم على ما اقترفت أياديهم بحق وطنهم ومواطنيهم, وكل ذلك أعود وأقول تنفيذاً لمخططات الأعداء, وتسهيلاً وتمريراً لمخططات أكبر وأوسع لا يهمهم من نتائجها غير مصالحهم الذاتية الآنية, أو تنصيبهم من خلال وعود براقة ملوكاً على جبل أو سهل أو نهر..! وتبقى سورية حصن العرب الأخير بعد صمت العواصم العربية وانكفائها على أوجاعها, وخوفها من عصا التأديب العولمية التي ستطالهم مهما فعلوا ومهما استكانوا إن عاجلاً وإن آجلاً. ومن هنا كان يجب أن تعطى الاشارة إلى قادة معارضة المعارضة لتمهيد الطريق لطعن سورية سواء بالحرب أو بالحصار أو بإيقاع العزلة عليها. إذ ما معنى أن يتنصب من يتهم سورية في كل شأن أسود أو مصاب يصيب أحداً في لبنان حتى قبل أن يجف حبر الإعلان عنه? وما معنى أن يتنازل ( حماة لبنان) عن سيادة بلدهم وتسليمها مفتوحة للغرباء سواء بالتحقيقات أو بتشكيل محكمة وتعيين قضاة غرباء أيضاً لمحكمة لم تستحضر بعد لائحة اتهام واحدة..? وما معنى أن تطالب هذه الفئة المشبوهة بنزع سلاح المقاومة التي حررت جنوب لبنان من اغتصاب الغزاة, والتي تقف الآن سكيناً في حلق أي رغبة في التمدد الاستيطاني والاحتلالي ( الإسرائيلي)?. وما معنى أن تطالب بنزع سلاح الفلسطينيين البدائي في مخيمات البؤس غير تسهيل ذبحهم كما حدث في صبرا وشاتيلا.? أوعلى أحسن حال شحنهم على سفن نقل البضائع إلى جهنم..? وأين رموز معارضة المعارضة من مطالبة المجتمع الدولي التحقيق في ألف جريمة اغتيال حدثت على أرض لبنان وما زالت مقيدة ضد مجهولين.? ولماذا لم يحفزوا غيرتهم العصماء لطلب التحقيق في مجزرة قانا.. وألف مجزرة غيرها? وأين هم و موقفهم من اغتيال رجالات المقاومة في لبنان وفي فراشهم? من البدهي القول إن ما يحدث الآن من محاولات اغتيال شخصيات لبنانية سياسية أو إعلامية( مروان حمادة, مي شدياق, وغيرهما) هو ذات السيناريو بالتحديد الذي تم به اغتيال غسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان.. وغيرهم. والانفجار الذي أودى بحياة رفيق الحريري وجبران تويني يشبه بالتفصيل الانفجار الذي أودى بحياة أبو حسن سلامة في بيروت وغيره أيضاً.. وهي جرائم اعترفت ( إسرائيل) بالتخطيط لها. فمن المستفيد من إبعاد أي شبهة عن الموساد أو السي آي إيه أو حتى العملاء الذين يسكبون الآن دموع التماسيح بعد كل حادثة, ويوجهون التهم جزافاً لسورية? ومن المتضرر من وراء هذه الاغتيالات? أليست هذه الأمور من أول بدهيات التحقيقات الجنائية? أنا لا أضع الأسئلة هكذا جزافاً, لكنني أضع في بطنها روح الأجوبة, وسيأتي اليوم الذي تنكشف فيه عورات المزيفين الذين يسعون بكل ضراوة لتدويل لبنان كي يقطفوا الثمن الموعود. أنا لا أعتب على الدبّ..! لكنني أعتب على الذي ( أتى بالدبّ إلى كرمه)..! * كاتب فلسطيني |
|