|
أخبار عربية ودولية سنثبِّت واقعة لا يبدو الحديث عنها تكراراً إنما من قبيل التأكيد على أن تقنيات الدروس المستفادة تندرج تحت هذه الواقعة وهي أن التسييس هو العنوان الأبرز للجنة التحقيق الدولية, وأن ليس ثمة من تحقيق نزيه مئة بالمئة, بدليل أنه في اللحظة التي لاح فيها في الأفق إمكانية دور سوري في المسألة العراقية(إحدى ثالوث المشكلات السورية- الأمريكية إضافة إلى الفلسطينيين وحزب الله) ظهر تجاوب بدا واضحاَ في تقرير ميليس الثاني. لن نفيض في هذا; فقد لا يكون تجاوب المحقق الدولي الجديد مع التسييس بنفس المستوى الذي كانه ميليس, ومع ذلك فإن التسييس سيبقى دائماً. أول المواقف التي برزت أثناء نقاشات سبقت الذهاب إلى فيينا تجلت في اعتبار البعض أن الاستهداف قائم ولن يتغير, ولا فائدة من التعاون مع اللجنة. هذه الطريقة التي طورت لتستخدم ضمن إطار لعبتي)حافة الهاوية وعض الأصابع), تجاوزت الغضب من الاستهداف والدفع باتجاه إعلان الصدام, تستحق قراءة أهدأ على اعتبار أنها في شقها الأول ناجعة أحياناً وخطرة في أغلب الأحيان, إذا ما راعينا اعتبارات اختلال ميزان القوى. فهي قد تكون ناجعة عندما يتم حساب تدخل دول عظمى ومقدار حجم ومنتهى هذا التدخل. وبغير هذا فإنها ستكون مُغامرة. نستطيع القول أن سورية قد حسبتها بشكل سليم عندما أصرت على رفض (المونت فيردي) وترتيب مسألة عدم توقيف ضباطها في فيينا يتناسب مع القانون الدولي وحقوق الأفراد وأصول المحاكمات الجزائية. فقد سارت نحو حافة الهاوية وحسبت الموقفين الروسي والصيني ,وسقفهما, واستفادت من المناخات العربية الموازية ودفعتها نحو التمكين من عناصر السيادة, والتي- لن نجامل- القرار ,1636وسنقول إنه قد كان الأسوأ في هذا الحقل بالذات. ما يجب أن نلفت إليه في موضوع قاعدة (أن سورية مستهدفة ولا فائدة من التعاون) أنه قد يوحي أحيانا للذات بما يتجاوز لعبة )عض الأصابع) أو (حافة الهاوية). فيصبح القرار أسير اعتبارات نفسية أو أسير (الموقف الدوغمائي); فيفقد إمكانيات الليونة والمناورة والتراجع والانسحاب, وهو تخوف مشروع , لكن التجربة بيَّنت أن ثمة عقلانية في آليات عمل صاحب القرار في السياسة السورية تستطيع أن تكون أكثر ليونة في اللحظة المناسبة. وهي تعتبر بحق- أن مصلحة الوطن أهم من أية اعتبارات نفسية أو دوغمائية(معتقدية), وهي قد قادت التفاوض بآلية حافية الهاوية ضمن ظروف صعبة, ولم تقع أسيرة (اللا سياسة) في اعتبار أن الاستهداف نهائي وأن لا فائدة من التعاون لأن هذا ليس من السياسة بشيئ, وهو الخطأ القاتل الذي وقع فيه العراقيون منذ بدايات التسعينيات, إلى أن أصبح حقيقية واقعة في مطلع القرن الحالي وصولاً إلى سقوط بغداد. ومع تقديرنا لاختلاف المسألتين العراقية عن السورية, إلا أن القاعدة التي يجب أن تحكم أي تفاوض سياسي هي أن لا استهداف نهائياً, وإن كان هذا الاستهداف فعلياً, فلا يجب على السياسي المحنك أن يرهن حساباته السياسية له, لأن الثابت الوحيد في السياسة هو المتغير, وعليه أن يخلق ظروفاً لا تجعل تمرير هذا الاستهداف واقعاً. فأي حدث سياسي له طرفان: طرف يستهدِف وطرف ُيسهل الاستهداف. والأكيد أن الصدام ليس هو الخيار الوحيد في مواجهة الاختلال الشديد في ميزان القوى. وإذا كان خيار الاستهداف قد أصبح وحيداً, فهذا يعني أن ثمة طرفاً قد سهل الاستهداف, أقله باعتباره أنه الخيار الوحيد , والعمل على أساس هذه القاعدة,وخالف مبدأً أساسياً في العمل السياسي يقول: إن السياسة ليست رؤوساً حامية. الدروس هنا تتمثل تلخيصاً بالآتي: لا ثابت في السياسة, لا تسّهل استهدافك, لا تسعى إلى الصدام, فكك خطة عدوك, استخدم سياسة )حافة الهاوية) و)عض الأصابع) مع حسابات عالية الدقة لميزان القوى وخاصة الدولية, حصّل الأفضل... وتعاون. هنا يستحق أداء الرئيس الأسد في إدارة الأزمة أن تُرفع له القبعة, وذلك لحظة الوصول إلى القبول بفيينا ضمن شروط الحدّ الأدنى مع إطار من حسابات ميزان القوى, والدخول في المسألة العراقية كدعم رديف وأزر استراتيجي لموضوع موقف سورية في التحقيق. ثاني الدروس يتمثل في أن الاعتماد على الدول العظمى الأخرى لا يجب أن يكون بأوهام. فالمؤكد أن أحداً غير الولايات المتحدة الأمريكية لا يستطيع استخدام الفيتو, وهذا من محرمات ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي; إلا أن الرغبة الأمريكية في جعل أي قرار يُتخذ في مجلس الأمن تحت مظلة الإجماع, تفسح في المجال أمام تحسين ظروف التفاوض والتحقيق, وأي إجراء آخر يخص سورية, إلا أن هذا لا يعني تغييراً جذرياً في تلك الظروف; فكل هذه الاعتبارات لم تعنِ ألا يصدر القرار 1636تحت مظلة الفصل السابع, ولم تعن عدم إدراج موضوع الحدود والسيادة اللبنانيين وربط ذلك بالإرهاب وبالقرارين 1466 و1373 اللذين ينزعان الحصانات, وعدم إلغاء 16 مرة ذكر فيها الإرهاب ربطاً باغتيال الحريري وهو جريمة سياسية في العمق, في ذلك القرار. ثالث تلك الدروس أن أي تعامل سياسي لا يجب أن يكون بعين واحدة: فلا المواجهة وحدها محمودة النتائج, ولا التعاون بلا تحسين لظروف اللعبة يحمي من الاستدارج إلى مزيد من تقديم المطالب ككرّة المسبحة. فمن الأصول في لعبة السياسة اعتماد المزاوجة بين الأسلوبين مع البراعة في تحصيل (الأقصى) واتخاذ قرار التعاون في اللحظة المناسبة... والأهم في هذا حشد كل وسائل الدعم اللوجستي عبر التعامل مع الولايات المتحدة ورواقها الخلفي (فرنسا), بما يدعم التوصل إلى أفضل وضع سياسي, دون سفح المصالحة الوطنية على مذبح التعاون!. رابع الدروس يتجلى في الدرس الذي يحيلنا مرة ثانية إلى التسييس; فكل ما سبق ذكره عليه أن يراعي أن العقدة الأساس هي في الموقف الأمريكي الذي له مطالب من سورية, لا يختلف عنه الأوروبيون ذ اليوم- إلا في بعض تفاصيل تنفيذها. فلا الرهان على أن الأمريكيين غارقون في العراق ولا يستطيعون بأن يخوضوا معركة مغامرة أخرى في مكان آخر صحيح, ولا التسليم لكل مطالبهم دون )هوامش حركة) وتحصيل الأفضل صحيح أيضاً. فالتعاملات السياسية بالنسبة للولايات المتحدة ليست واحدة, وبالتأكيد فإن (سيناريو سورية!) لديهم مختلف عن سيناريو العراق, لكن استراتيجيتهم مستمرة, والمطلوب هو التوصل إلى أفضل وضع يمكن تحصيله كنقطة تلاق بين مصالح سورية الوطنية وبين الاعتبارات الدولية (على اعتبار أن جزءاً من مطالبات الولايات المتحدة اليوم قد أصبحت دولية). كما أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار التأثير الفرنسي في دعم بعض المتغيرات التي تم تحصيلها (في اللحظات الأخيرة), الأمر الذي يعطي الانطباع بأن وصلَ المقطوع مع فرنسا يشكل في حدوده الدنيا مطلباً استراتيجياً لسورية في المرحلة المقبلة. بعد تصريحات طوني بلير الأخيرة, ثمة نافذة بريطانية هي الأهم في جدول الاستثمارات الآنية لسورية, خاصة إذا ما راعينا أن بريطانيا كانت تشكل العقدة الأَمَرّ في المعادلة الأوروبية في الكثير من القضايا, وهي الجناح الأيمن للسياسة الأمريكية. صحيح أن أمر شرق المتوسط ُموكل أمريكياً إلى فرنسا بعد التصريحات التي تحدثت عن ثقة الرئيس الأمريكي في نظيره الفرنسي بخصوص تلك المنطقة باعتباره الأخبر بها, وهو أمر يرتبط أيضاً بالتقاسم الوظيفي لمرحلة الوفاق بعد قمة النورماندي , 2004وطي صفحة الخلاف بخصوص الحرب على العراق, إلا أن النافذة البريطانية تبقى بالنسبة لسورية الاستثناء في السياسة البريطانية, ومؤشراً ذا قيمة. خامس الدروس هو الدرس الذي يقول بأن استثمار الكفاءات الوطنية, وتنويع طيف الرؤى السياسية خصوصاً العقلانية منها في إدارة الأزمات, هو السبيل نحو معالجة مثلى للأوضاع المأزقية; أي أن الداخل مسألة أولوية في التعامل مع عالم غير عادل وغير متوازن. صحيح أن رضا الجميع غاية لا تدرك, ولكن المناخ الوطني الذي ارتفعت وتيرته مع الأزمة, وكشف أن الشارع يصون وطنه ويعرف أن يمايز بين التخوم البيضاء والسوداء, وهو الذي كشف مواقع البعض الآخر, يستحق أن يقدم له في خدماته وأوضاعه المعيشية و و و... الخ ما يتجاوز الانحناء إجلالاً لإحساس نوعي(لا يقارن) بأن الوطن فوق كل اعتبار. * رئيس مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية بدمشق |
|