|
صفحة اخيرة هي تمتامة أي في لسانها عقلة لا يكاد كلامها يُفهم لكنها في التخيل جميلة, وهما لسانهما طليق كلامهما واضح مفهوم لكنهما في التخيل قبيحان. هي تُبَّاعُها يرتفقون برزقها ناقة وبغلة وكلبة وهرة, وهما تُبّاعهما يرتزق بمكاسبهما ملقنو الأموات وبائعو الأكفان وصانعو النعوش والتوابيت, وقراء الفواتح. هي حالها قائمة على أحلام الشاعر فإذا تلاشت الأحلام تلاشت, والأحلام لا تتلاشى وهما حالهما قائمة على مصائب البشر فإذا تلاشت تلاشوا, والمصائب لا تتلاشى. ولنتساءل أليس ثمة أوجه تلاق واختلاف في التعاطي مع المصائب والكوارث بين مغسلي الأموات وحفاري القبور, وبين وسائل الإعلام (وعلى الخصوص الإخبارية التي تزداد وتتعاظم يوماً عن يوم)? في البداية ثمة نقطتا اختلاف: الأولى أن الإعلاميين يلتذّون بالمغامرة والتضحية والقلق, لكن مغسلي الأموات وحفاري القبور يلتذون بالأمان والطمأنينة. والثانية أن الإعلاميين يزعمون تعدد المواقف والآراء, لكن حفاري القبور أحاديو النظرة. أما نقاط التلاقي فما أكثرها وهي: كلاهما يرى في الموت والمصائب والكوارث وسيلة رزق. كلاهما يعمل جاهداً ليكون في ساحته أكثر بروزاً, محاولاً أن يظهر على منافسيه ويكتم أنفاسهم بغاية الاستئثار بالمغانم, يتجلى إبان المصائب والكوارث طلقاً متحفزاً نشيطاً محاطاً بالأبهة والرهبة, متوجساً أن يخفت صوته فتجف منابع رزقه ويأكل قلبه بالكساد. كلاهما يتعامل مع الملأ في العلن ومع أصحاب الشأن في السر يحابيهم ويتربص أن يغدقوا عليه العطايا والهبات. كلاهما حيادي مصفى من الهوى, الإعلام يتعامل مع المصيبة والكارثة كأنها سلعة لا يعبأ في أي أرض كانت..ومغسلو الأموات لا فرق عندهم أن يكون الميت زيداً أو عمراً. كلاهما يبحث عن سعة الانتشار عند وسيلة الإعلام لتبث أفكارها, ويزاد دخلها من الإعلانات وعند مغسلي الأموات وحفاري القبور لكسب أكبر عدد من الزبائن. كلاهما يصنع من الحبة قبة, ينفخ في الأحداث ليستلب الناس ويثير أعصابهم, ويؤجج فيهم المخاوف والوساوس, ينذرهم باقتراب الساعة كأنها وشيكة واقفة على الأبواب. كلاهما منافق يدعي الصدق: الإعلام قادر أن يجعل من الفأر فيلاً ,ومغسلو الأموات وحفارو القبور قادرون أن يجعلوا من الصعلوك الأفاق صالحاً تقياً. كلاهما يخلط الحقيقة بالوهم بدعوى جلاء الحقائق, الإعلام بالتعددية في الرأي والرأي الآخر وتقليب الأحداث على وجوهها بشحذ ألسنة المحللين وأصحاب المواقف المتناقضة, والمتنافسين في التراشق بالاتهامات, والإمعان في التفاصيل كالناظر إلى امرأة من قوامها وعنقها وعينيها وشفتيها وشعرها ولون بشرتها ورنة صوتها ومغسلو الأموات وحفارو القبور بالاستعانة بالنواحات لزف الميت وكأن ارتفاع العقائر يبسط الخطو نحو الجنة. كلاهما يرى الحياة من منظار أسود يرشق أخبار السوء على الناس كالسهام تصيب منهم العيون والآذان والأكباد وتجعلهم تائهين لا يستقرون على حال, يتشبثون بالحياة يخافون أن تفارقهم ويهابون الموت, ويخشون السقوط. لست أدري كم يعاني المواطن العربي هذه الأيام من الحساسية المفرطة كأنه مدعو إلى الاستنفار وشحذ الأسنان والأظافر للاشتباك في معارك وهمية مع أعداء, لا يرى سوى مخلفاتهم من الدمار والخراب. وثمة وسائل (الإعلام المنوع) تقف على النقيض, تحملق من محطات شتى, تغزو عيون الشباب, تتعامل مع أحاسيسهم الرخيصة, تستلبهم من واقعهم وتنسيهم ما يدور حولهم. إنه عصر المتناقضات مربوطا بالخيوط, يخيّم على الأجواء العربية في دعوات لاهبة إلى اليأس المطبق. إلى التربع على الأرض في انتظار المصير المشؤوم. المواطن فيه سلعة تباع بالمزاد العلني, مضيَّع بين الغزو الإعلامي الساحق, وبين وسائل الإعلام المحلية ذات الصوت الواحد والأسلوب الرتيب, والتبعية anhijazi@scs.net.org ">الصارمة. anhijazi@scs.net.org |
|