|
ملحق ثقافي
وقد شهد العقدان الأخيران عددا لابأس به من هذه النشاطات وحضورا لها في المجتمع بشكل ملحوظ بعد أن أقيمت هذه النشاطات في أماكن عامة متعددة وعلى الملأ أمام الجمهور متنوع الثقافات والذي بدأ في احتكاك يومي مع نتاجها الذي وضع في الأماكن العامة. من جهة أخرى نرى أن هذه التجمعات التي يقيمها الفنانون متعددو الجنسيات والتي ينتجون خلالها أعمالا فنية ضمن ظروف معينة زمانية ومكانية في بيئة معينة تعود في أصولها الى جذور حضارية موغلة في القدم والعراقة لهو أمر غاية في الأهمية. فمن الجدير ذكره أن الفرصة التي تتاح للفنانين المحليين كبيرة حين يطلع الفنان الغربي أو القادم من أية بقعة في العالم عن كثب وبملامسة حقيقية على الرؤى الفنية والامكانات الكبيرة للفنان المحلي الذي يغني الحضارة عموما بنتاج غني وبمواكبة وتفاعل ثقافي واضح. اضافة لذلك فملامسة الفنان الضيف للثقافة المحلية عموما وارثنا الحضاري يلقي بظلاله على ماهية المشهد المحلي والذي ينقله للعالم اينما حل ونحن بالطبع مسؤلون عن هذه الصورة المتناقلة التي تعكس حياتنا الثقافية وغيرها. يضاف لذلك أن هذا التجمع الفني يعد مساحة رحبة يستثمرها الفنانون المشاركون، فكل منهم يمارس طقوسه في الفعل التشكيلي بمايميزه أمام الزملاء، بطرقه وتقنياته الخاصة والمبتكرة وهنا يتعرف الفنانون على بعضهم بشكل كبير ولكل منهم تاريخه الفني الحافل وهذا وجه اخر من الافادة التي يجنيها المشاركون عموما. لجأت لهذا التقديم في معرض حديثي هذا عن ملتقى دمشق الدولي للنحت لضرورة التأكيد على المسؤلية الكبيرة التي تقع على عاتقنا كمجتمع تجاه الشكل الذي يقدمنا للاخر وما نستقدم من فنون معاصرة الى بلدنا وما يفرز من نتاج فني يوضع أمام الناس ويلعب دوره في مسار الذائقة الفنية لمجتمعنا. الملتقى الحالي أقيم على أرض معرض دمشق الدولي القديم وانتهى في العشرين من الشهر الجاري على أن توزع الأعمال في الأماكن العامة من ساحات وحدائق وطرقات عامة وغيرها. ويذكر أن هذا النشاط أقيم بالتعاون مابين محافظة دمشق ومؤسسة الفنان مصطفى علي ومؤسسة آركو آرتيه في كرارا بايطاليا والتابعة للفنان بطرس الرمحين ويعني اسم هذه المؤسسة بالعربية «جسر للفن». وتم دعوة واحد وعشرين نحات ونحاتة لهذا الملتقى ممن يمتلكون مكانة وشهرة عالمية وهم من جنسيات مختلفة أغلبهم يقيم في ايطاليا وهم من الارجنتين، بلغاريا، كوبا، الدانمارك، فرنسا، ألمانيا، اليونان، ايطاليا، اليابان، بولندا، بيرو، رومانيا، تركيا، سوريا. وجاء هذا التعدد في البلدان المشاركة كما يسعى ويرى القائمون على الملتقى بغية «حضور أكبر عدد ممكن من الحضارات وأغنى قدر ممكن من الرؤى المتنوعة «. وأكد الفنان بطرس الرمحين أهمية هذا النشاط الذي يسعى لتزيين مدينة دمشق بأعمال نحتية لفنانين عالميين لهم مكانتهم على امتداد العالم وساهم الفنان بطرس باختيارهم وهم فنانون متقاربون ومنسجمون فيما يقدمون من نتاج، في اطار روح واحدة تجمعهم في اتجاهات معمارية. كانت مدينة كرارا الايطالية « مدينة النحت العالمية « مجالا للتعرف عليهم وعلى نشاطاتهم. ويؤكد الفنان بطرس على أهمية انتقاء هذا النوع من الحجر « الوطني « الذي يعتبره شاهداً على العصر فلا يزال جميلا منذ آلاف السنين بنقوشه ومايحمل من مفردات. فالحجر برأيه معلومة تاريخية طويلة الأمد وهو أساسي لتسجيل حضارة وتاريخ المستقبل ويقول ذلك في سياق حديثه عن الفنون المعاصرة وحالة الغليان التي يعيشها العالم في البحث عن فنون حداثوية جديدة. عندما شارفت مدة الملتقى على الانتهاء بدأت الأعمال تبدو قريبة من شكلها النهائي تعبر عما يبتغيه الفنان وحاولت «المحرر» التواجد لعدة أيام،أرى مايقوم به النحاتون ومن يرافقهم من المساعدين والحجارين والحرفيين والمهنيين في هذا العمل الابداعي الشاق وسط طقس شتوي قاس تتناقل رياحه غبارَ الحجر في أجواء المكان والتي لايعيرها الفنان أي اهتمام. كان الجمهور يتردد ليرى مايجري ويشهد حالة هذا التحول الهام للحجر والذي يبشر بحضور أعمال يتوقعها المراقبون رائعة وجميلة عبر الحجر التدمري الأبيض والذي يخفي المزيد من الصعوبات التي تواجه النحاتين الذين يبددونها بالتغلب عليها من خلال حنكتهم وخبرتهم. يبدو أن النحاتين في مجملهم ومن خلال الأعمال التي بدأت تتضح مصرحة بشكلها النهائي تجمعهم رؤى فنية متقاربة فالأعمال في مجملها حداثوية تتوزعها الصياغة التجريدية ذات الاتجاهات المعمارية والتي لاتخلو من الحلول المتسمة بالطرافة وربما الغرابة، والملاحظ حالات الانسحاب لصالح الاستعراض التقني الذي يكشف عن امكانات بارزة ونتائج تمتاز بالنجاح على صعيد الشكل بعيدا عن مضمون معين وانحراف واضح عن موضوع أو فكرة محددة. فالمسيطر على مانراه هو السطوح والمستقيمات والدوائر والأقواس التي تحدد الكتل بسطوحها المعالجة ببراعة، هذه الكتل التي تجتمع الى بعضها عبر بنائية وتركيب ونظم مدروسة في الطريق الى العمل المتكامل، العمل الذي يؤلف شكلا واحدا منتصبا ومتخللا فضاءه انما في محاكاة للعمارة من خلال التجريد وبملامسة لمشاعر الاعجاب أكثر من الدغدغة العاطفية للمتلقي الا في عملين أو أكثر يتصدرها عمل الفنان لطفي الرمحين الذي يبدو عليه الاثارة الانسانية والدفء النابع من هذا الحجر الذي بدا بليونة خطوطه وتقاطعها وانحناءاتها مبشرا بمضمون ورؤية خاصة. كذلك محاولة الفنان أكثم عبد الحميد التأكيد على أهمية الكتاب من خلال اعتماده موضوعا لعمله وتحميل هذا العمل مفردات من ارثنا الشرقي تنحرف قليلا عما هو معماري، ولاتبتعد عن السرب، ويرى الفنان عبد الحميد أن الملتقى الحالي يتمتع بأهمية كبيرة من حيث استقطابه لوجوه عالمية في عالم النحت سيتركون أعمالهم في حنايا دمشق ارثا هاما لشعب المنطقة يضاف الى باقي الأعمال الفنية التي تحتفي بها سوريا غير أنهم سينقلون صورة جميلة عن البلد بعد احتكاكهم بشعبها ويؤكد أيضا على ضرورة العمل بشكل فعال من أجل استمرار هذا النشاط بشكل دوري دون انقطاع وتخصيص ميزانية مناسبة لذلك . الفنان الياباني يوشين أوغاتا يسير باتجاهات متعددة ضمن نظام واحد فينطلق بفلسفته من أثر قطرة الماء والماء ليترجم ذلك من خلال الحجر وهنا تبدو الدهشة ويتعاظم الاعجاب أمام طاقات هذا الفنان المبدع وحساسيته ورقته في آن، ويتألف عمله من كتلتين ضخمتين تتركزان فوق بعضهما وتؤلفان شكلا واحدا من تموجات دائرية تحدثها قطرة الماء المتساقطة على السطح المائي فمن هنا ينطلق يوشين في عمله مخترقا عوالم تجريدية رائعة. نعود للحديث عن الملتقى والذي يديره الفنان مصطفى علي بانسجام مع الاداريين الاخرين لنشير الى أنه تم التحضير أيضا على هامش الملتقى لورشة عمل لأطفال من خلال العمل باشراف النحاتين المشاركين على انتاج أعمال نحتية بخامة الحجر وهذه الخطوة تثمن حقيقة ان طبقت بشكل سليم لما لها من أهمية عبر اكتشاف المواهب وخلق فرصة للتعايش مع الحجر واكتشافه وبالتالي سبر أغوار النحت بهذه الخامة بالنسبة لهؤلاء الأطفال. في النهاية نؤكد على قضية استمرار هذه الملتقيات والبحث عن سبل ترسيخها وتطويرها ودعمها بالمعايير الدقيقة سعيا لثقافة بصرية مرجوة اثر التمثل الحقيقي لمتطلبات المشهد التشكيلي المحلي واتاحة الفرص - عبر الملتقيات المتتالية اللاحقة - للعديد من الفنانين المحليين من خلال دعوتهم للمشاركة سعيا لتنوع أكبر فيما يُِفرز من أعمال وتجاوزا لمطبات من شأنها تغييب تجارب هامة تعكس صورة الفن السوري يجب أن يتعرف عليها هؤلاء الضيوف من النحاتين وحتى لايصاب المجتمع بشيء من التخمة والملل لقاء تكرار أسماء وأعمال متشابهة أو ربما مستنسخة. |
|