|
ملحق ثقافي
تخلل أيام المعرض توقيع الكتاب الذي وضعه الناقد صلاح الدين محمد حول حياة وفن شموط الذي شارف عمره السبعين عاماً، وعمر تجربته الفنيّة ما يربو على نصف قرن من الزمن، أمضاه في تعلم الفن وممارسته على الصعيدين العملي والنظري. فعز الدين شموط رسام وغرافيكي ومصوّر وباحث في علوم وشؤون الفن التشكيلي المعاصر. أقام العديد من المعارض الفرديّة داخل سوريّة وخارجها، ووضع عدة كتب فنيّة منها: قيمة العمل التشكيلي بين الفن والجمال 1990، تعريف بفن الحفر والطباعة 1992، لغة الفن التشكيلي 1993، نقد الفن التجريدي 1998، أزمة الفن التشكيلي 2000. درس الفنان شموط الفن في دمشق وباريس، وحصل على درجة الدكتوراه عام العام 1987. عمل مدرساً في قسم الحفر والطباعة بكلية الفنون الجميلة بدمشق، ثم تفرغ للفن كلياً، وهو يعيش اليوم متنقلاً بين باريس التي يعتبرها مرسمه، ودمشق التي يجدد فيها ذاكرته البصريّة، ويشحن روحه بالمحرضات على اجتراح فعل الفن والحياة في آنٍ معاً.
تجربة رائدة ومتنوعة والحقيقة، لا يختلف اثنان على أن تجربة عز الدين شموط، تقف اليوم وبجدارة، في طليعة التجارب الفنيّة التشكيليّة الرائدة، لما تحمل من عمق البحث، وغنى وجديّة التجربة، وتنوع التقانات والأساليب والصيغ التي رافقت هذه التجربة منذ بدايتها الأولى مطالع ستينات القرن الماضي وحتى اليوم. ما عمق وزاد من ألقها وأهميتها، مواكبتها لتجربته الأخرى، الجادة والمجتهدة، في علوم الفن واتجاهاته وتقاناته، والتي أخذت طريقها إلى مجموعة من المؤلفات المنشورة. اشتغل الفنان شموط على تقانات الرسم والتصوير والحفر المطبوع وفنون الكتاب وفن التلصيق «الكولاج» وقدم في كل تقنية أعمالاً فنيّة لافتة، تميزت جميعها، بجدية البحث القائم على موهبة فنيّة حقيقيّة، نضجت وتمرست وتبلورت بالانكباب المجتهد على الإنتاج والعرض ومتابعة ما ينداح عن التشكيل العالمي من اتجاهات وتقانات. ولأن الفنان شموط في الأساس، مسكون بهاجس التجديد والابتكار وارتياد الآفاق المجهولة من مدائن الفن الواسعة، وفي الوقت نفسه، مُحصن ضد الانجراف في التيارات العابثة، والضائعة والمُضيّعة لقيم الفن ومفاهيمه المتراكمة عبر أحقاب زمنيّة موغلة في القدم، حافظ في منجزه البصري، على اللغة الفنيّة الراقية، والواضحة، والمحقونة بالابتكار والخيال والتجديد، والمتمثلة في الوقت نفسه، لإمكانات وخبرات الفنان _ المعلم والباحث عن الجديد دوماً، سواء على صعيد المضمون، أو على صعيد اللغة التعبيريّة الحاضنة لهذا المضمون، وهي لغة لم تتردد بالجمع الموفق بين تقانات فنيّة تشكيليّة مختلفة، فوق سطح واحد، بهدف إغناء هذا السطح، وتصعيد لغة التعبير فيه، وقيمها الجماليّة البصريّة، دون التفريط بالواقعيّة التشخيصيّة ولا بالمضمون الإنساني الرفيع، ما مكن منجزه البصري، من فتح حوار فاعل مع المتلقي، دون الوقوع في شرك التسجيليّة المكرورة والميتة، ذلك لأن الفنان شموط يحرص، وبشكل دائم، على مزج الواقع بالخيال، والرؤية بالرؤى، وثقافة البصر بثقافة البصيرة، في هذا المنجز.
مرجعيات راسخة على الرغم من تشعب ثقافة الفنان شموط الفكريّة والبصريّة، والخبرات التقانيّة الكبيرة التي جمّعها من الدراسة والممارسة، ظلت تجربته الفنيّة قائمة على مرجعيات تراثيّة عربيّة، شعبيّة وإسلاميّة، أصيلة وغنيّة، ما جعل ثقافته البصريّة الأوروبيّة غير قادرة على إلغاء ذاكرته البصريّة التي حملها من النشأة الأولى بين حواري دمشق القديمة وأسواقها ومطارحها المسكونة بالتاريخ والعراقة وعبق الأزمنة الوسيمة الحنونة التي مضت بعيداً بالعوالم الجميلة التي بات الجميع يتحسر عليها، ويتمنى عودتها، في عصر الاستلاب الرديء إلى حد العطب!!. لقد غرف الفنان شموط من تراث بلاده العريق الجميل، أعاد صياغته بأكثر من شكل. خاض غمار الحروفيّة العربيّة بطريقته الخاصة، فزاوج بين القدرات التشكيليّة الطيعة واللينة للحرف العربي، وبين نزعة تزينييّة تشخيصيّة غرافيكيّة قادته إلى الرسم بالحرف، هيئات وأشكال مدروسة الإيقاع والحركة والتكوين والتدرجات اللونيّة.
بحث دائم لم يُطل الفنان شموط وقوفه في هذه المرحلة، إذ سرعان ما غادرها إلى اللوحة المنفذة بأكثر من تقنيّة لونيّة، وصيغة فنيّة، جمعها بلهفة واجتهاد، من دراسته الأكاديميّة الأولى في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق «1961_1966» ثم في دراسته العاليّة في المدرسة الوطنيّة العليا للفنون في باريس «1974_1987» والتي أعاد خلالها النظر في الكثير من المفاهيم والمعلومات التي كان يحملها، فهو يعتقد أن لدى الغرب خبرات فنيّة تشكيليّة متراكمة يتجاوز عمرها خمسمائة عام، وهذه الخبرات لا تقتصر على تقنيّة اللوحة اللونيّة، وإنما تمتد لتشمل علوم الفن ونظرياته وفلسفاته والبحوث الجماليّة التي رافقت ظهور وسيلة التعبير الراقيّة هذه. انكب الفنان شموط في باريس على تعميق دراسته التقانيّة والنظرية، لكن دون التخلي عن جذوره وشخصيته وهدفه البعيد من ممارسة هذا الفعل الإبداعي الراقي.
ركائز وضوابط تحرس تجربة الفنان شموط جملة من الركائز والضوابط المستقاة من تاريخ الفن الطويل، منها ضرورة تلازم الشكل والمضمون في العمل الفني الذي لا يقتصر على خطوط وأشكال وألوان، وإنما هو أيضاً نظام وترتيب وبناء لهذه العناصر، يؤدي في النهاية، إلى غاية وهدف هو «المعنى العام» المنوط بهذه العناصر وشكل ونظام ترتيبها في العمل الفني، وهذا المعنى والمحتوى مهما كان واقعياً، يحتاج إلى عنصر خيالي، لأن رؤية العمل الفني لا تضعنا أمام صورته المعكوسة في اللوحة. ولهذا فإن علاقة الشكل بالشكل تبقى غامضة إذا لم ترمز إلى شيء ما يبرر وجوده في العمل الفني الذي يعتبره المجال الأكثر ملائمة لكي يمارس الفنان فوقه نشاطه الخيالي البصري، ليس فقط على الصعيد الشكلي، وإنما على الصعيد الثقافي والرمزي. بين دمشق وباريس دأب الفنان شموط في السنوات الأخيرة، على التواصل الحميمي والفاعل بينه وبين وطنه، فأصبح يوزع وقته بين مغتربه «باريس» التي يعتبرها مرسماً، وبين مسقط رأسه «دمشق» التي يراها النبع الذي يزود روحه وأحاسيسه ووجدانه بمحرضات الإبداع والابتكار. والحقيقة، فإن المنجز البصري «على اختلاف وتنوع تقاناته» للفنان شموط، يقدمه مبدعاً وحرفياً ماهراً في آن معاً. فهو يتقن صنعته بشكل جيد، ويمارسها بحرفة عاليّة، وفي الوقت نفسه، يُتقن استحضار الفن إليها، مازجاً في منجزه البصري، بين الواقعيّة الرصينة وما يشبه السورياليّة، أو التكعيبيّة، لا سيما في الأعمال التي تناول فيها موضوع البيت الدمشقي من الداخل والخارج، عبر تقسيمات تأخذ جانباً من سطح اللوحة أو تغطيه بكامله، يُضيء بعضها ويعتم بعضها الآخر. وعبر هذه الإضاءة المدروسة والساحرة، يقدم موتيفات وعناصر البيت الشامي، برؤية ومفهوم معاصرين، ودقة متناهيّة، تعكس إمكاناته المتفوقة في الرسم والتلوين والتوليف، ومدى ما يتمتع به من صبر وأناة وقدرة على الإحاطة بتفاصيل الواقع وجزئياته، لكنه لا يقدمها كما هي، وإنما يحقنها بخيال خصب يصعّد من خلاله الواقع وجماليات العناصر المكوّنة له، ما يجعل المتلقي وجهاً لوجه، أمام سحر الفن والواقع وعذوبة الخيال. نفس الخصيصة، تنسحب على الموضوعات الأخرى في أعماله، لا سيما الأخيرة التي دعاها «من أساطير المرأة» حيث زاوج فيها بين المرأة المشغولة بواقعيّة مدهشة، ونسب تشريحيّة سليمة، وبين الطبيعة الصامتة «فواكه، أزهار، ورود، كؤوس، أباريق ومصابيح تراثيّة، أسماك، عصافير وحيوانات مختلفة، أقنعة تاريخيّة ومعاصرة، آلات موسيقيّة .. الخ». والمرأة لديه عاريّة، وشبه عارية، موضوعة ضمن توليفة تشكيليّة واقعيّة خياليّة سحريّة أسطوريّة، تطرب لها العين، ويرتاح بين جنباتها الإحساس، وتنطلق في فضاءاتها الروح الظامئة إلى الجمال الإنساني والشيئي المقروء، الواضح المطرز بالخيال في الوقت نفسه. رغم نهوض المنجز البصري لدى الفنان شموط من الواقع، وسطوة «الفن الجماهيري» الذي شاع باصطلاح «بوب آرت» على هذا المنجز، إلا أنه لم يقع في شرك التسجيليّة الجامدة، ولم يفقد حيويته، ذلك لأنه يحرص على حقنه بروح الأسطورة وسحر الخيال.
اللوحة الأحدث للفنان عز الدين شموط، أكدت بوضوح شديد، مدى ما يتمتع به من خبرات تقانيّة توليفيّة، وقدرات رفيعة في الرسم والتصوير الواقعي والتلوين، وبالتالي، تأليف نص بصري واقعي خيالي سحري مدهش، تتماهى فيه الواقعيّة الرصينة، بالتخيليّة الإبداعيّة الابتكاريّة المتفردة في شكلها ومضمونها. |
|