|
ملحق ثقافي
موضوع الفن هو الواقع، والواقع فعلياً كان أم متخيلاً، موضوعياً أم ذاتياً، والعالم الداخلي للفنان نفسه، وفكر الفنان أحد تعبيرات الوعي الاجتماعي لعصر محدد. وهكذا فإن تكون المنهج الفني يعكس حركة وتطور الواقع نفسه، وكذلك تطور الوعي الاجتماعي بما في ذلك جانبه الجمالي. وقد تكلم إنجلس عن المنهج المتصف بالديالكتيكية كمعادل للواقع. يكشف الفنان الحياة كعالِم، إلا أن كشف الفنان لها يتم على شكل إقامة عالم مماثل يخلقه هو بواسطة الصور الفنية. وفي ذلك جوهر الفرق وليس شكله فقط بين العلم والفن في اكتشاف الواقع. ويرى أرسطو أن الفنان يشيد من خلال الفن عالماً كذلك الذي تخلقه الطبيعة بشكل عفوي. فيما يرى ديدرو أن الشاعر يبدع من العدم. ولكن، في الحقيقة، فإنه ليس سليماً أن نعيد كل شيء إلى حدس الكاتب أو نزواته العابرة، كما يرى فلوبير. ويدرس هيغل الموضوع نفسه، ويرى أن «بدون إعمال الفكر وإجراء فرز وتصنيف، لن يكون بمقدور الفنان استيعاب المادة التي عليه أن يكونها. ومن الغباء والسذاجة افتراض أن الفنان لا يعرف ما يقوم به». إن الفنان عندما يخلق عالمه الفني، إنما يهتدي بمفاهيم عامة عن الحياة، بتصورات معينة حول ما يؤلف العالم الداخلي للإنسان والوسط المحيط به، حول القوى الموجهة لحياة الناس، والعوامل المؤثرة على مصير الإنسان وتطور المجتمع، حول ما يحدد تصرفات الناس ويحكم علاقاتهم، وحول ماهية العالم المحيط. ويقول بلزاك «إن قانون الكاتب، أو ما يجعله هذا أو ذاك من الناس، إنما هو نظرته هذه أو تلك إلى قضايا الحياة الإنسانية». تبدأ الواقعية، حين تصبح المعرفة الفنية ذاتها معادلاً للواقع، وعندما تجسد حقيقة الحياة. ولكن، ومع كل عصر جديد في تاريخ العالم، تصبح حياة المجتمع والإنسان أكثر تعقيداً وتفرعاً وتتعمق وتتوسع معرفتها وكذلك الأشكال الفنية لهذه المعرفة. ولا يتحقق الصدق الموضوعي في تصوير الناس في الفن الواقعي بتصنيف وتفصيل الخصائص الإيجابية والسلبية لشخوص العمل من قبل الفنان، بل بعمق نفاذه إلى العالم الداخلي للشخصية. وتؤلف الشمولية في تصوير العالم الداخلي للإنسان، الخصيصة الجوهرية للواقعية. ولا يصبح العالم الروحي لبطل العمل الفني محدداً عندما يخلع عليه الكاتب أفكاره الخاصة، محولاً إياه داعية أو مبشراً. ويرى تولستوي أن الغرض الرئيسي للفن هو قول الحقيقة حول النفس الإنسانية، والإفصاح عن تلك الأسرار التي يستحيل التعبير عنها بالكلمة البسيطة. والفن ميكروسكوب يسلطه الفنان إلى أعماق نفسه لينقل تلك الأسرار والمكنونات العامة والخاصة بكل الناس. ومن هنا يرى ليرمنتوف بأن «تاريخ النفس الإنسانية – أي نفس إنسانية مهما كانت صغيرة – أكثر فائدة وإثارة لفضول المعرفة، من تاريخ شعب بأكمله». ورغم ذلك لم يبعد كل من ليرمنتوف وتولستوي اهتمامهما عن تحليل الحياة كلها. لا يخترع الفنان شيئاً غير موجود، بل يجسد ما هو إنساني عام. وكلما كان الشاعر – كما يقول بيلينسكي - أعظم، كلما كانت أعماله أبسط وأيسر تناولاً وفهماً، لدرجة يتعجب معها القارئ كيف لم يفكر هو نفسه في كتابة شيء ما مشابه. فها هو الصراع الذي صوره غوته في «آلام فرتر» هو صراع بين الفرد والمجتمع في ظل المجتمع الإقطاعي القديم في ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر. ويصر غوته على أن عصر فرتر لا ينتسب إلى مرحلة من تطور الثقافة العالمية، بل إلى التطور الحياتي لكل إنسان بعينه. فالسعادة المحطمة والأمنيات غير المتحققة ليست مصيبة عصر محدد، وإنما هي مصيبة كل إنسان. أما غوغول في «النفوس الميتة»، فإنه –وحسب بيلينسكي – قد وجه روايته هذه إلى المجتمع الروسي بأكمله، وفي ذلك تكمن قيمتها وأهميتها على مستوى الوطن كله. إنها عبارة عن صور خواء ويباس العالم النفسي لأبطال ذلك الزمن. لقد قدم فنانون كثر – من بوشكين وغوغول وليرمنتوف وغوته وشيلر وشكسبير – تصوراً لتطور الشخصية الإنسانية، لا يمكن أن يقدمه العلم، لأنه يحفل بصراع من أجل الإنسان، ونحن إلى هذا اليوم نلمس الإنجازات العظيمة لتولستوي ودوستويفسكي وآخرين، والتي ما تزال إلى يومنا هذا تذهلنا وتفتح أمامنا الكثير من الأسئلة وتوقعنا في خضم من التأملات الكبيرة حول مصيرنا كبشر. |
|