تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سهير القلماوي وحماسة الناقد

ملحق ثقافي
2018/12/25
إعداد: رشا سلوم

لمن لا يعرف سهير القلماوي، الأديبة والناقدة التي أثرت الأدب العربي بكنوز فكرية وثقافية، هي اليوم موضع الاحتفاء والتقدير في مصر التي تستعد لاستضافة معرض الكتاب، وبهذه المناسبة المهمة أصدر الدكتور جابر عصفور كتاباً مهماً عنها، قدم فيه الكثير من ذكرياته معها وهي الأستاذة التي تحتفي بها مصر، وكرمها الراحل جمال عبد الناصر، يقول دكتور جابر عصفور:

أدين لأستاذتي سهير القلماوي بأشياء كثيرة، ربما كان أولها أنها جعلتني أدرك أن المرأة لا تقل كفاءة عن الرجل في ميادين العمل المختلفة، أو مجالات العلم المتباينة، وأن تفوقها في كل ما يمكن أن تنهض به من أعباء خارج منزلها لا يعوقها عن أداء دورها في منزلها بوصفها زوجاً وأما وربة بيت . وأشهد أن هذه الأستاذة الفاضلة كانت أكثر حزماً، وأقوى إرادة، وأشد جسارة من كثير من الرجال الأساتذة الذين تتلمذتُ عليهم، وعملت معهم، ورأيتهم يمارسون أعمالهم ويؤدونها في فتور وعدم حماسة ، وكانوا - أحياناً - يفرون من المواجهة إذا لزم الأمر، إيثاراً للراحة النفسية، وطلباً للسلامة السياسية أو الاجتماعية، بل تفضيلاً للاسترخاء العلمي والدوران في الدائرة نفسها . وما أكثر المواقف التي رأيتها لسهير القلماوي، والتي جعلتني أتتلمذ على هذه السيدة في الدراسات العليا، وأوثر العمل معها، بل يزيدني هذا العمل فخراً بنفسي وبنموذج المرأة الذي كان يتجسد في سهير القلماوي موقفاً وسلوكا ً.‏

وكانت سهير القلماوي بطبيعة ثقافتها تجمع بين القديم والجديد، تعلمت الجديد في المدارس الأجنبية التي درست بها قبل أن تلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وأتقنت العديد من اللغات الأوروبية، واستعدت لدخول كلية الطب، ولكن كلية الطب لم تقبل أوراقها لأنها فتاة، فقد كانت الجامعة المصرية تتردد في قبول الطالبات إلى عام التحاق سهير القلماوي بها . وذهب والدها الطبيب الشهير إلى طه حسين ليُعينه على حل مشكلة ابنته، ولكن طه حسين صرف نظر الطالبة عن كلية الطب، وأقنعها بالالتحاق بكلية الآداب، والدراسة في قسم اللغة العربية الذي كان أشهر أساتذته . ويبدو أن شخصية طه حسين الساحرة جذبت الفتاة سهير القلماوي إليه، فتعلقت به، واتخذته أباً ثانياً وأستاذاً ومشرفاً ورائداً ومثلاً أعلى في الحياة . وأجَلَّها الأستاذ وأعجب بها، ووجد فيها نموذجاً للمرأة الجديدة التي كان المثقفون المصريون يحلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتاب “المرأة الجديدة ” ونشره في سنة 1900 من مفتتح القرن الماضي .‏

ومضى الزمن بسهير القلماوي في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وتنقَّلت ما بين الدرجات العلمية بعد أن حصلت على درجة الماجستير عن “أدب الخوارج في التراث العربي”، وحصلت على درجة الدكتوراه عن “ألف ليلة وليلة”، وانتهى بها الأمر أستاذة للأدب الحديث ونقده في القسم، وأصبحت رئيسة لقسم اللغة العربية وآدابها، فكانت الفتاة الأولى التي تدخل إلى كلية الآداب، والفتاة الأولى التي تحصل على درجة الدكتوراه من جامعة مصرية، والأستاذة الأولى التي تترأس قسماً من أقسام الدراسات العلمية بالجامعة وكانت في إشرافها على القسم نموذجاً للحزم الإداري، والصلابة الموضوعية، والمواقف المحايدة العادلة .‏

وقد تخرجتُ في قسم اللغة العربية وهي رئيسة له، وفوجئتْ هي بشاب لا تعرفه، ويخجل من الاقتراب منها، بل يخجل من محادثة أية أستاذة أو حتى زميلة، يحصل على أعلى الدرجات، وينال درجة الامتياز بمرتبة الشرف، وهي درجة لا تزال نادرة في قسم اللغة العربية إلى اليوم . وكانت هي البادئة في الاقتراب، تحدوها رغبة معرفة تلميذها المجهول الذي لم يسألها سؤالاً واحداً في محاضرة، ولم يستعرض معلوماته كما يفعل أقرانه في السن عادة . وكان حنوها في التعامل معي أكبر دافع لي في الاقتراب منها . وسرعان ما جذبتني إلى عوالمها : التفتح الاجتماعي، الموسوعية الثقافية، ضرورة إتقان لغة أجنبية والقراءة بها، الوصل بين المعرفة التراثية والمعرفة النقدية الجديدة، الجسارة في الحق والجرأة في إعلانه، الإيمان بقضية المرأة والدفاع عن حقوقها المهدورة، الانتماء الثقافي العربي الذي لا يتناقض مع الانتماء الإنساني . وبقدر ما كانت هذه العوالم تزيدني رغبة في الانتساب إليها علمياً، والتعلم منها حياتياً، كانت هذه العوالم تصلني بأستاذها طه حسين الذي قدمتني إليه في يوم لا أنساه، في منزله “رامتان” بالهرم، وكان الأستاذ أيامها قد تقاعد من العمل الجامعي .‏

وازدادت الصلة بيني وبين سهير القلماوي بتعييني معيداً في قسم اللغة العربية . وبدأت أسعى لتسجيل أطروحتي لدرجة الماچستير معها، واقترحتُ عليها أن أعمل في “الإيقاع الشعري”، فقالت لي إنها لا تحبّذ أن أبدأ حياتي الجامعية بموضوع لا أمتلك الكثير من أدواته، واقترحت أن أنتقل من دراسة الإيقاع الشعري إلى دراسة التصوير في الشعر، وأخذتُ أعمل في الموضوع، وانتهى الأمر بتسجيلي رسمياً لدرجة الماجستير.‏

وكانت سهير القلماوي خلال هذه الأثناء قد انتقلت من رئاسة قسم اللغة العربية إلى رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث أنشأت للمرة الأولى المعرض الدولي للكتاب الذي يدين لها في وجوده بالفضل. واعتدت أن أذهب إليها في مكتبها بالهيئة، وكان على كورنيش النيل، في العمارة المجاورة لعمارة دار المعارف التي يوجد بها مقر مجلة “أكتوبر” بالقرب من مبني التلفزيون. وكنت أرى في مكتبها كبار الأدباء الذين يأتون لزيارتها أو متابعة كُتبهم التي كانت تصدرها الهيئة . ويبدو أن هذا المناخ قد أثار المزيد من حماستي، ودفعني إلي العمل ليل نهار حتى أنتهي من أطروحة الماجستير. وبالفعل، حبست نفسي شهراً كاملاً وكتبت الفصل الأول من الأطروحة، وجعلت عنوانه: “مفهوم الصورة الشعرية في النقد العربي القديم والنقد الأوربي الحديث والنقد العربي المعاصر”. وفرغت من كتابة الفصل، وذهبت به فرحاً إليها، وأنا أقول لنفسي: ”انتهيت من الفصل الأول في شهر، فلابد من الانتهاء من بقية فصول الرسالة كلها في أربعة أشهر، وأحصل على درجة الماچستير في زمن قياسي”. ولم أكن أدري لفرط حماستي ولسذاجتي معاً أن الحد الأدنى لمناقشة الماجستير هو عام وليس أشهراً قليلة، وأنه من البلاهة المطلقة أن يفرغ باحث من دراسة النقد العربي كله، والنقد الأوروبي كله، فضلاً عن النقد العربي المعاصر، في شهر واحد. ولا أزال إلى اليوم أضحك من حماستي وسذاجتي التي دفعتني إلى فعل ما فعلت .‏

المهم أنني أعطيت الفصل لأستاذتي في مكتبها، فأخذته منِّي، وقالت لي :”هاتفني بعد أسبوع”. وقضيت الأسبوع على أحرّ من الجمر، وهاتفتها، فطلبت مني الانتظار أسبوعاً آخر، ولم ألتفت إلى أن نبرة صوتها كانت متغيرة عن المعتاد. وهاتفتها للمرة الثانية، فدعتني إلى مكتبها، وجلست أمامها قلقاً، فقد لاحظت تجهّم وجهها، واختفاء البسمة التي تقابلني بها عادة، وفتحت أحد أدراج مكتبها وأخرجت الفصل وأعطته لي دون كلمة، وأتبعت ذلك بأن قدمت إلى ورقتين تزدحم سطورهما بكتابة إنجليزية . وقالت بحزم لا أنساه : “هذه مراجع إنجليزية في الموضوع، اذهب إلى الأستاذة (س ) بمكتبة الجامعة الأمريكية، وسوف تتولى معاونتك في الحصول على هذه المراجع والاطلاع عليها في المكتبة أو خارجها” . ولم تترك ملامحها فرصة للاستفهام عن شيء، فتلقيت الأوامر صامتاً، مصدوماً، وخرجت من عندها إلى مبنى الجامعة الأمريكية القريب . وأذكر أن دموعي انهمرت وأنا سائر على كورنيش النيل، فقد تبخرت الآمال والأحلام الوردية لإنهاء أطروحة الماجستير في أشهر . وأخيراً، وصلت إلى المكتبة، وتلقَّتني الأستاذة (س) بودّ جميل، وقرأت معي ما لم أستطع فك رموزه من خط أستاذتي باللغة الإنجليزية، واسترحت لأن نصف المراجع التي كتبتها كانت مقالات في دوريات أجنبية، أما البقيـــة فكـــانت كتباً لا بد من قراءتها . ولحسن الحظ، كانت الكتب مرتبة بالأرقام، فقد حرصت الأستاذة - دون أن تخبرني - على أن أتدرج من السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب .‏

وعدت إلى منزلي وبدأت القراءة . ومضيت في العمل بلا كلل، وبعناد من يريد أن يثبت لأستاذته أنه جدير بالتلمذة عليها ، إلى أن فرغت من العمل الذي أخذ منِّي عاماً كاملاً من الجهد الشاق والمعاناة التي لا تنسى . وعندما انتهيت، اتصلت بها، فدعتني إلى لقائها، وذهبت إليها وقد أصبحت مدركاً كل الإدراك لغبائي فيما كتبت، وكان إحساسي بالندم كبيراً على الفصل الذي كتبته من قبل والذي حملته معي كالذنب . وعندما لقيتها، وجدت الابتسامة عادت إلى وجهها، وقالت : “أين الفصل الذي كتبته منذ أكثر من عام؟”، فأخرجته من الحافظة، وقبل أن أعطيه إليها بادرتني بالسؤال : “أخبرني أنت الآن عن رأيك في هذا الفصل؟” فاندفعت قائلاً في تأثر : “كلام فارغ لا يكتبه إلا شخص جاهل ”. فعاودها حزمها وقالت : ”إذن مَزِّقه أمامي، وتخلّص منه”. وبلا تردد، مزقت الأوراق أمامها، وأنا أشعر أنني أتخلص من مراهقتي العلمية وسذاجتي الفكرية على السواء . وابتسمت حانية، وقالت: “ أظنك تعلمت الدرس الأول واستوعبته . امض الآن واكتب أطروحتك ”. ومضيت، وبدأت في كتابة الأطروحة التي لم أفرغ منها إلا بعد سنوات، وعلى نحو كان يدفعها - كما كان يدفعني - إلى الرضا عن ما فعلته بي في الدرس الأول .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية