تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


البئر

ملحق ثقافي
2018/12/25
سمير جمول

تعثَر فجأة.. تأرجح، حاول أن يستقيم لكنه هوى.

استفاق من إغماءته ليجد نفسه في قاع بئر سحيقة.‏

كانت الرطوبة ورائحة العفونة تملأ المكان، متشحة بسواد حالك، تقتحمه دائرة مضيئة كقطعة نقد فضية في الأعلى.‏

أراد الصراخ.. أراد النهوض لكن الألم كان أقوى، فكتم كل المحاولات بعجز يحطم كل جزء من جسده.‏

تضاءل حول نفسه بكل ما تبقى له من قوة، ليستسلم إلى إحباط جديد، إضافة إلى آلاف الإحباطات التي حملها من هناك.‏

اقتحم ذلك الهدوء صوت قادم من تلك الدائرة الفضية هاي.. هاي.. هاي..‏

ارتفع بنظره إلى الأعلى، فوجد دائرة سوداء مرتسمة شغلت جزءاً من اللون الفضي، وكانت تتحرك مطلقة ذلك الصوت مرة أخرى هاي... هاي... هاي....‏

استجمع بعضاً من صوته.‏

-ساعدني....‏

تعالت ضحكة طفولية.‏

- لقد جُنِنْت... الصدى يردد نفسه؟؟ أمّا أن يقول ساعدني فهذا هو الجنون بعينه؟؟!!!‏

- هاي... هاي... هل من أحد هناك؟؟؟‏

يتحرك قليلاً، يحاول أن يكون أكثر استقامةً، ويجهد نفسه كي يكون صوته أعلى.‏

- أرجوك ساعدني...‏

يتعالى الضحك بشكل هستيري‏

- يا إلهي... هذا الصدى مختلف. لابد أن هناك إصابة في دماغي.‏

يتسلل إلى سمعه صوت أقدام تضرب الأرض مبتعدة مردداً بصوت مسموع...‏

- لابد أنه جنون البقر لقد قالت أمي أنني (تربيت على حليبه).‏

لحظة قصيرة.... وتظهر في تلك النافذة دائرتان سوداوان.‏

- هل يوجد ماء في هذا البئر؟‏

- لا أعتقد‏

- تعال نجرب. ألق حجراً....‏

ألقى أحدهما حجراً، وأنصتا...‏

حاول أن يتفاداه، لكن الحجر كان أسرع واستقر على رأسه. خرجت الآخ لاواعية من داخله لأنه في هذه اللحظة لم يكن باستطاعته امتلاك زمام أموره.‏

- هل سمعت؟؟!! هذا ليس صوت ارتطام الحجر بماء.‏

- وليس صوت الارتطام بتراب.‏

- أتعتقد أن هذا صوت الحجر؟‏

- الحجر يتألم ويصرخ؟؟!!!‏

- ربما..... لقد قال أجدادنا إن لكل شيء روحاً.‏

- وهذا الحجر قد يملك روحاً... ألم تسمع! لقد صرخ متألماً.‏

- أرجوكما أنقذاني........‏

- أنصت..... إنه يطلب منا إنقاذه.‏

- هيا نبتعد. لقد قال الأجداد أيضاً، إن بعض الأرواح شريرة، وربما تكون هذه الروح شريرة.‏

تنقطع الأصوات إلا من صوت أقدامهما تهرول مبتعدة.‏

يعود إلى كآبته.... يعود إلى عفونة المكان التي بدأت تمتد إلى أجزائه.‏

حتى تلك الفرجة الفضية، بدأت تبهت شيئاً فشيئاً، لولا ظهور تلك اليد من خلالها مشيرة إلى الأسفل.‏

- ربما نجد هنا بعض الماء، وإذا لم يكن موجوداً نزيد من عمقها فنحصل على ما نريد ونوقف زحف هذا العطش القاتل.‏

تتداخل عدة أصوات.. لا أمل.. لابد أن من سبقنا حاول ولم يجد فغادر الى مكان آخر مهاجراً.. الأفضل أن نرحل... لنحاول.. لن ننجح ولن نفعل..‏

يحاول أن يلوح بيديه لكنهما مشلولتان فقد غزاهما سكون مزمن، ولم يعد يسعفه سوى بقايا من صوته وعقله، الذي بدأ يمل جمجمته بعد أن أصبحت كبيرة عليه.‏

- أرجوكم أنا هنا.. أنا هنا في الأسفل.‏

هدوء.. صراخ هستيري ولغط هرج ومرج.‏

- لقد صدق الذين عبروا. نعم إنها البئر المسكونة بالأرواح.. نعم إنها هي.. إنها أرواح شريرة.. هاتوا حجارتكم.. ارجموها.‏

تنهال الحجارة من كل الأحجام والألوان...‏

يصيح.. يصرخ.. يبكي..‏

تبدأ تلك النافذة الفضية بالابتعاد، ويخبو نورها، وتتقلص منفلتة من مدى نظره، ويتراكم حاجز من الحجارة يفصله عن تلك الحماقات محتضناً آخر أحلامه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية