تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الرواد التشكيليون

إضاءات
الثلاثاء 25-12-2018
سعد القاسم

من بين المواضيع التي جددت طرحها أيام الفن التشكيلي السوري موضوع الريادة حيث الخلاف مستمر بين من يرى أن الرائد في الفن التشكيلي السوري هو من بدأ، حتى لو كان مُقلداً، وبين من يرى أن الرائد من ابتكر أسلوباً أو نهجاً جديداً، وبالتالي أضحى هناك حديث عن جيل ثاني من الرواد ، أو ما تم التعارف على تسميته بجيل الحداثة.

يمتد الفن التشكيلي السوري إلى نحو خمسة آلاف سنة، كان خلالها الوجه المشرق للإبداع الإنساني في مواطن إنسان ما قبل التاريخ، كما كان الوجه المبدع للحضارات التي وُجدَت في هذه المنطقة التي اعتبرت قلب العالم القديم منذ حضارة ناغار (تل براك) - التي استوحيت العيون الواسعة لمنحوتاته في تصميم الرمز البصري للأيام التشكيلية - مروراً بحضارات سومر وإيبلا وأوغاريت وأكاد وأشور وبابل وإبداعات الآراميين والتدمريين، كما عرفت الأرض السورية الفن الإغريقي والهيلنستي والروماني والبيزنطي، وكان لسورية الدور الأساس في نشوء الفن المسيحي والفن الإسلامي.‏‏

بحكم الموقع الخاص لسورية، والغزوات التي تعرضت لها، وكثرة الاضطرابات التي عرفتها المنطقة، فقد حُرِمَت فنون التشكيل من تطورها الطبيعي حتى كادت أن تغيب تماماً حتى مطلع القرن الماضي. وبتأثير الفن الأوربي المزدهر ظهرت في البدايات الحديثة للتشكيل السوري التيارات الواقعية التسجيلية والانطباعية. و ثمة إجماع على اعتبار توفيق طارق المولود عام 1875 رائد الفن التشكيلي السوري المعاصر، وهو مصور ومعماري درس العمارة ومساحة الأراضي في فرنسا، وقام بترميم بعض المآذن الأثرية ومنها مئذنة قايتباي في الجامع الأموي في دمشق التي أعاد تشييدها بعد الضرر الذي لحق بها من حريق نشب في الجامع في أواخر القرن التاسع عشر. عني توفيق طارق بتصوير مشاهد الطبيعة والحياة والأوابد والوقائع التاريخية بأسلوب كلاسيكي استشراقي، وأشهر لوحاته لوحة «معركة حطين» المحفوظة في القصر الجمهوري بدمشق، وقد تبنى الأسلوب ذاته فنانون عدة جاؤوا بعده منهم: عبد الوهاب أبو السعود، الذي كان رائداً مسرحياً أيضاً، وسعيد تحسين وغالب سالم رائد الفن التشكيلي في حلب، وهو أول فنان سافر إلى إيطاليا لدراسة الفن في أكاديمية روما.‏‏

في حين مالت الواقعية عند صبحي شعيب نحو التعبيرية، اتجهت عند محمود جلال إلى الكلاسيكية الحديثة، وإلى الانطباعية عند رشاد قصيباتي ورشاد مصطفى وعبد العزيز نشواتي وزهير صبان وخالد معاذ وأنور أرناؤوط وفتحي محمد وناظم الجعفري. وإلى التجريد عند زاره كابلان وإسماعيل حسني.‏‏

غير أن رائد الاتجاه الانطباعي في سورية كان دون خلاف ميشيل كرشة الذي زامن توفيق طارق ودرس التصوير الزيتي في مدرسة الفنون الجميلة العليا في باريس، وكان من أهم من سار على دربه نصير شورى أحد أكثر الفنانين حضوراً في الحياة التشكيلية السورية، وقد درس التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وتنقّل أسلوبه بين الواقعية والتجريد والانطباعية، قبل أن يستقر على أسلوب خاص به يؤالف بين الانطباعية والتجريد. واللافت للانتباه أن بعض فناني مرحلة الريادة قد زاولوا النحت إلى جانب التصوير الزيتي كما هو حال محمود جلال وفتحي محمد وصبحي شعيب، بيد أن أسلوبهم في النحت كان في أغلب الأحيان مختلفاً عن أسلوبهم في التصوير.‏‏

إن تباين اتجاهات الفنانين وأساليبهم في مرحلة الرواد (الأولى) لم يخرج عن الواقعية التي ظلت مستمرة في الأجيال الفنية المتتالية بأشكال شتى، ويظهر تعدد الاتجاهات الفنية - أكثر ما يظهر - في المرحلة التالية لمرحلة الرواد في الفن التشكيلي السوري، أو ما يمكن وصفها بمرحلة الرواد الثانية، أو مرحلة الحداثة، وترجمت هذه الاتجاهات مفاهيم فكرية تشكيلية تراوحت بين تأصيل الإبداع التشكيلي، وتوثيق صلته بعصره. و مّثل أدهم إسماعيل ونعيم إسماعيل اتجاهاً يسعى لاستلهام الخيط الزخرفي العربي والزخرفة الهندسية والنباتية، وكذلك الحكاية، في صنع لوحة معاصرة. في حين استخدم عبد القادر أرناؤوط - في الآن ذاته - الزخارف والكتابة العربية وبعض تقاليد الحرفيين في الرسم النافر. وفي المسار ذاته اتجه فنانون نحو استخدام الكتابة العربية بصيغ مختلفة نُسبت إلى (الحروفية) أهمهم: محمود حماد الذي انتقل من الواقعية التعبيرية ليؤسس اتجاهاً تجريدياً يعتمد تحوير الحرف العربي إلى صيغة تشكيلية معاصرة، وسامي برهان وقد اعتمد في لوحته نصاً أدبياً يعيد صياغته برؤية تشكيلية.‏‏

ظهر اتجاه بالغ الأهمية بعد جيل الرواد على يد فاتح المدرس الذي عدّت لوحته «كفرجنة» عام 1952 بداية اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وهذا الاتجاه، الذي وصف بالتعبيري حيناً وبالواقعي التعبيري حيناً آخر، يستلهم موضوعاته وأشكاله من العلاقة بين الإنسان والمكان، ومن التراث الحضاري على امتداد تاريخه وشواهده في سورية، وقد ظهر هذا الاتجاه بأساليب مختلفة في أعمال عدد من الفنانين، منهم ألفرد حتمل وأحمد مادون ووحيد مغاربة،ومن أحد أهم الأسماء التي ظهرت في مرحلة بعد الريادة: نذير نبعة ، وقد درس في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وحافظ على حضور قوي ومستمر ومؤثر في الحياة التشكيلية السورية في عدة عقود عرفت فيها تجربته بضع تحولات مهمة من استلهام التراث الشعبي والزخرفة الهندسية إلى الواقعية الرمزية والرومانسية وصولاً إلى التجريد اللوني المستلهم من تأثيرات الضوء في مشهد الصخور الجبلية.‏‏

قدمت فنون التصوير والنحت السوري التاريخية مصدراً مهماً لتجارب الفنانين المعاصرين، بدءاً من تقاليد التصوير، والنحت الجداري في الحضارات السورية القديمة، مروراً بمفهوم فن الأيقونة السورية، وصولاً إلى أسس فن المنمنمات. ويقف الياس الزيات في مقدمة من استعاد فلسفة الفن القديم في لوحة معاصرة مستثمراً في ذلك قدرته التقنية المتقدمة، وظهرت هذه الاستعادة بصيغ مختلفة عند ليلى نصير، وعند عدد من فناني جيل الثمانينات. وللحديث تتمة‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية