|
آراء وقد حقق ثروة ضخمة وزار بلداناً كثيرة, طوال ست سنوات كان يقصدني كل شهرين لأفحص عينيه, وللأسف شبكيته مراراً. انقطع فجأة عن زيارتي واعتقدت إنه قصد طبيباً آخر وهذا حقه إلى أن فوجئت به يزورني بعد انقطاع أكثر من عامين ليدعوني إلى عرس ابنته, ولم أستطع أن أقاوم فضولي واسأله من يعالجه فضحك قائلا: علاج أي علاج لقد أوقفت الأنسولين وكل الأدوية السخيفة الخاصة بالسكري, حتى الحمية اللعينة أوقفتها. وأمام نظرة الدهشة في عيني قال متباهياً: لقد قصدت مزاراً في قرية الدريكيش يشفي من الأمراض, والحمد لله صرت عال العال وشفيت من السكري, وحين سألته إن كان قد أجرى فحصاً لدمه بعد زيارة المزار, وتأكد أن سكر دمه طبيعي قال: لا داعي وتوقف عن الكلام ليتأملني بنظرة شفقة ثم تابع أنتم أهل العلم مساكين لا تؤمنون بالمعجزات. رجل آخر كلما قصدني أتمنى لو يسجن إذ إنه أنجب ستة أولاد عميان بسبب مرض وراثي ونصحه الأطباء ألا ينجب أطفالاً لأنهم سيكونون بالتأكيد عمياناً. وفي كل مرة كنت التقي هؤلاء الأبرياء الصغار ينعصر قلبي من الألم وأتساءل: ألا يجب أن توجد قوانين تجبر هذا الجاهل عن عدم إنجاب أطفال عميان. ولسوء الحظ ابنه رقم سبعة كان أعمى أيضاً, وحين صرخت به: أنت مجرم حرام عليك ماذا تشعر وأنت تنظر لأولادك, لايرون النور, غير قادرين على اللعب والتعلم, وإذا لعبوا كان مصيرهم الكسور والجروح لأنهم لا يبصرون. رد بغضب: أنت كافرة فالله عز وجل قادر أن يجعل أحد أطفالي سليماً, كما لو أن الله عز وجل يمنعنا من التفكير السليم والعقلاني. بل إن كثيرين يفكرون ويتصرفون كما لو أن هناك تناقضاً بين العلم والإيمان يبدو غريباً ونحن نعيش في ثورة الإنجازات العلمية والطبية, أن يزداد تعلق الناس بالخرافات ليس في عالمنا العربي فقط, بل في العالم بأسره, وهناك فورة كبيرة عند البشر للجوء للأوهام والخرافات والإيمان بها كمخلص لهم من أمراضهم الجسدية والنفسية, بل إنهم يستبسلون في الدفاع عنها ويلبسونها لباس الحقيقة من شدة حماستهم لها. لا أنكر تأثير الحالة النفسية للإنسان وتأثيرها في التعامل مع المرض فالأشخاص الذين يتمتعون بمتانة نفسية عالية يقاومون الأمراض ويخففون كثيراً من أعراضها والعكس صحيح. لكن لا يمكنني ولا بشكل من الأشكال أن أغيب عقلي وأصدق أن مزاراً في قرية يمكن أن يشفي من مرض السكري أو غيره. إن انتعاش عقلية الإيمان بالخرافة في عصر الثورة العلمية هذا له أسبابه بالتأكيد وبالفعل تميزت السنوات العشر الأخيرة للقرن العشرين بإنجازات عظيمة خاصة في مجالي الطب والفيزياء..ومع ذلك يزداد التعلق بالخرافات?! وليس من السهل إيجاد جواب واحد لهذه الظاهرة,إذ يجب تحليل حياة الناس والظروف المعقدة التي يعيشون فيها..وقد وجدت جوابا مقنعا إلى حد بعيد بعد أن قرأت كتب المفكرة والفيلسوف الفرنسي الشهير بول ريكور وهو يسمى بفيلسوف الإدارة. ويقول بول ريكور إن إنسان هذا العصر مصاب بما يسمى الفوبيا الجماعية للشر..وفي أعماق كل منا ذعر دفين مكبوت سببه أننا نعيش في عصر اللا أمان وانعدام الاستقرار النفسي الحقيقي..وكل احساسنا بالأمان زائف..فهذا العصر الذي حقق إنجازات علمية هامة في مجالات تخدم الإنسانية, قد حقق في الوقت ذاته إنجازات لدمار البشرية والتطور العلمي في علاج الأمراض,ترافق مع تطور القنابل النووية,والقنابل الذكية! يكفي إحساسنا أن كل هذا العالم يمكن بلحظة أن يغرق في العدم بسبب قنبلة ذرية..يكفي إدراكنا(الواعي أو غير الواعي) أن القوة العظمى التي تتحكم بمصير البشرية هي قوة لا أخلاقية... أميركا المتغطرسة والتي تريد تحقيق مصالحها وأطماعها على حساب الشعوب لا تملك أية معايير أخلاقية وإنسانية في تعاملها مع الإنسانية... بل صارت كلمة إنسانية كلمة جوفاء لا دلالة واقعية لها... يكفي كم العنف والإجرام والدمار الذي تحاصرنا به الشاشة كل يوم,حتى نشعر كم يمسخ إحساسنا بالأمان والاستقرار. ان هذه الخلفية النفسية من إحسان الإنسان باللا أمان والقلق,وبأن قوة شريرة متربصة به وقادرة أن تتحكم بمصيره,تدفع الناس للإيمان والتعلق بالخرافات. |
|