تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تشكيل.. فيفيان جبور بين التشكيل والطب..الواقعية في فضاء الكتب والموسيقا..

ثقافة
الثلاثاء 4-9-2018
أديب مخزوم

منذ أيام طفولتها الأولى, حين كانت في الثالثة من عمرها، شعرت الفنانة التشكيلية فيفيان جبور، بشوق في أصابعها لرسم العناصر والأشكال المحيطة بها،

ثم التحقت بمركز صبحي شعيب للفنون بمدينة حمص، ولقد شاركت بعشرة معارض جماعية, في حمص وطرطوس، وحالياً تحضر لإقامة معرضها الفردي تحت عنوان: دخان راقص.‏

بعد زمني‏

وفي لوحاتها التي عرضت نماذج منها، تجسد الكتب القديمة والمرأة والآلات والنوتة الموسيقية والشمعدان والشمعة المشتعلة، والكتل المتكونة من ذوبانها، والمحبرة وريشة الطائر، التي كانت تستخدم في كتابة المخطوطات القديمة وغيرها، وتركز لإظهار الدخان المتصاعد من هذه العناصر، على شكل سراب وجه أو حركة راقصة أو طير وغير ذلك، وهي في معظم أعمالها تميل لإظهار البعد الثالث مستخدمة تدرجات الظل والنور، كما تمنح أشكالها أجواء التعتيق أو البعد الزمني, وتركز لإظهار أدق درجات الدقة في الرسم والتلوين الواقعي، بينما تبدو العناصر المرسومة على هيئة دخان متصاعد، أقرب إلى الصياغة الرمزية والتعبيرية المبسطة والمختصرة, والتي تظهر من خلالها أرضية أو خلفية اللوحة.‏

فيفيان جبور طبيبة عيون, لم تنقطع عن الرسم، رغم هجرتها القسرية, مع أسرتها، من حمص إلى طرطوس، والتي فرضتها ظروف الحرب المدمرة, حيث واصلت نشاطها الفني، وازدادت قناعتها بضرورة تأكيد خصوصيات البحث الأسلوبي والجمالي على الصعيدين التكويني والتلويني.‏

ومن الناحية التقنية تستخدم ألوان الزيت على القماش والخشب، وشأنها شأن مجمل الفنانين بدأت بالرسم الواقعي، وموضوعها المفضل المرأة، حيث جسدتها وهي جالسة بإحدى لوحاتها، وفي لوحة أخرى جسدتها، وهي حاملة آلتها الموسيقية ( الكمان ) ومنظوراً إليها من الخلف, حيث بدا شعرها بحركته الطويلة المنسابة طلاقة ونعومة، بينما تحولت الخلفية إلى نوتة موسيقية. وهي تجسد هذه العناصر والإشارات في لوحاتها, وبطريقة متدرجة بين الواقعية السحرية والأداء الرمزي والخيالي,الذي يمنحه الدخان المتصاعد بحركات توحي بأشكال من الواقع.‏

بين التشكيل والموسيقا‏

وأعمال فيفيان جبور تفرض على المشاهدين نوعاً من الواقعية الشديدة الوضوح والبروز، وهذه الحقيقة نلمسها حين نتأمل الكتب والمخطوطات، التي تجسدها وتمنحها ألوانها الحقيقية، التي تبدو قادمة من عمق الأزمنة, والتحدي يكمن في محاولة رسم هذه المشاهد والعناصر بواقعيتها السحرية أو القصوى التي تميزت بها.‏

والعلاقة بين التشكيل والموسيقا البصرية تتعزز في لوحاتها، لا سيما وأنها تجعل النوتة الموسيقية تشغل مساحات في بعض لوحاتها، وهكذا تصبح موسيقا اللوحة حقيقية, مثلما هي افتراضية في الدلالات اللونية والخطية.‏

فالدمج ما بين الإيقاع السمعي والبصري، وتداخل العناصر بدقة متناهية، ثم التحول لإظهار العلاقة المتبادلة والمتداخلة بينهما، وما إلى ذلك من إيقاعات تشكيلية متنوعة، يوصلنا في نهاية المطاف إلى تنويعات النغم الموسيقي البصري وتبدلاته الإيقاعية.‏

ولوحاتها على هذا تبدو كصفحات من نوتات موسيقية ملونة لسوناتات أو سمفونيات أو مقطوعات منسابة كتداعيات أو رغبات أو ذكريات حاضرة في سياق التأليف والتلوين التشكيلي الذي يوحي بالموسيقا.‏

هكذا أصبحت قادرة على توءمة الموسيقا بالفن التشكيلي، من خلال كتابة فصول تكاوين عناصرها البصرية أو مايسمى بالإحساس الروحي في صياغة ايقاعات اللون والخط، والتي تتوالد منها مؤشرات الإحساس بالموسيقا البصرية.‏

كل ذلك يسمح ببروز إيقاع موسيقي خاص لدلالة اللون في مساحة اللوحة، ولايمكن في هذا المجال وصف أو تحديد تموجات الحركة اللونية، لأنها مرتبطة باحتمالات لامتناهية على مستوى توليد الإيقاعات الموسيقية البصرية، وتحددها فروقات مرهفة شديدة الحساسية، تساهم فيها تضاريس المادة اللونية ولمسات الفرشاة ومداها الفيزيائي الطبيعي، وتنوع الدرجات اللونية وتوضع الطبقات وغير ذلك من المؤثرات البصرية اللامتناهية, فكل لمسة أو حركة لونية تصبح مصدراً من المصادر الأساسية للحركة اللحنية في موسيقا اللوحة، وبمعنى أدق تصبح اللوحة نوتة موسيقية للمقطوعة المرافقة بحيث يمكن الإحساس بها عن طريق العين، فالمؤثرات البصرية التي تكوّن موسيقا اللوحة يمكن قراءتها على أساس تنويعات النغم الموسيقي الافتراضي المرافق للرسم.‏

والمعروف أن جذور هذه المحاولات تعود إلى «بول كلي» الذي كان يقول: «يجب أن نعود العين على الإنصات إلى اللوحة», ثم ظهرت محاولات دمج الفن الموسيقي مع الفن التشكيلي، مع تجارب « كاندينسكي « كمنطلق اختباري متماسك مع هواجس التعبير عن إيقاعات طراوة وحيوية موسيقا اللون وتقاسيمه المرئية المسموعة بالعين, وحين نستعرض ذلك يكون في حسابنا، أن موسيقا اللوحة يمكن أن تكون صادرة عن لوحة تجريدية، فكيف أن تعزز ذلك بوجود نوتة موسيقية في اللوحة.‏

كنوز أثرية‏

ولقد شاركت فيفيان بمعرض (ألواح تتكلم) وأعطت لوحاتها الإحساس الحجري, واستعادت أجواء بعض المنحوتات السورية القديمة، التي تبدو كأنها قادمة من العصور الغابرة في فجر التاريخ، فكانت هذه التجربة بمثابة ردة فعل عفوية ضد محاولات تخريب وسرقة وتهريب الأثار السورية, في مرحلة الحروب والأهوال, وبذلك ساهمت بالقاء بعض الأضواء على تلك الكنوز الأثرية السورية، التي لامثيل لها في كل تاريخ البشرية القديم والحديث. وكان الهدف من ذلك المعرض، إلقاء أضواء على روائع المكتشفات والمقتنيات المتحفية والتنقيبات المتواصلة، والإحاطة بجمالياتها وقيمتها الفنية والتاريخية والحضارية، والتنبيه الى ضرورة اعتماد الطرق الأكثر حداثة، في خطوات الترميم والحماية، وإعادة المسروق منها لمتاحفها ولبلدها الأصلي. فبعد سلسلة من الاختبارات والعمل اليومي المتواصل، أعيدت التماثيل إلى ماكانت عليه،بتلك الألواح، بنضارة ألوانها وبريق سطوحها، وذلك بفضل المثابرة والبحث التقني والتشكيلي المتواصل وامتلاك الموهبة والدقة والمهارة والحيوية في التكوين والتلوين معا.‏

facebook.com adib.makhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية