تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لبنان والديمقراطية المستوردة!

شؤون سياسية
الخميس 25/5/2006
بقلم الدكتور نسيم الخوري

منذ عام ونحن نقرأ أو نسمع أو نشاهد السياسيين, بعض السياسيين, ينتقدون ويعزفون أموراً على تماس مباشر أو غير مباشر بالعسكر والأجهزة الأمنية تزلفاً لمدعي الديمقراطية.

وقد تخف حدة الانتقادات أو تشتد تبعاً لظروف سياسية واجتماعية ووطنية لم نكن نسمعها إلا من جانب واحد وهو الجانب السياسي المتطلب الذي لم نعرف بداياته من نهاياته. أين يقودنا هؤلاء في أطروحاتهم المتعددة التي لاتعرف التكامل منذ كان لبنان, وكل ذلك أمام صمت شبه مطبق من المجتمع العسكري في بلد مثل لبنانmedia state غارق في برية الإعلام والسياسة حتى أذنيه?‏

لقد غدا مصطلح ( العسكر) مشحوناً بوقع في النفوس, والسلوك غير علمي وغير مبرر أو لايستقيم في التحليل العالمي, وهو يفصح عن توجس ليس ظاهراً لدى قلة من المواطنين ونقزة من كل ما له علاقة بالزي العسكري, مع أن الزي العسكري هو من مستلزمات إظهار السلطة الوطنية العامة, تماماً كما الزي الديني هو من مستلزمات سلطات رجال الدين, وهو أيضاًً من مستلزمات السلطات التربوية في أثناء إلقاء المحاضرات ومنح الشهادات في المدارس والجامعات, ولكل سلطة لباسها.ولو نظرنا من حولنا لوجدنا أنه حتى أميركا اعتى قوة في العالم تبدو وهي تتلفع بالزي العسكري في هجومها إلينا ببذار الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد! أين نحن من هذه المعزوفة الميكيافيلية?‏

وصلنا إلى مرحلة نشعر فيها وكأن حكومتنا تسحب أموالك وأشياءك من جيوبك وأنت واقف متأهب للنشيد الوطني, أو وصلنا إلى مرحلة امتهن فيه الساسة رش أملاحهم الغربية حبة حبة فوق طعامنا, ووقعنا هائمين في حفرة بين تخمتهم وجوعنا. كنا نتساءل ربما في سرنا: لماذا يخر هؤلاء وأولئك من سياسيينا وهم يصافحون السفراء الغربيين أويتعقبون أهل السلطة القضائية والجامعية ليل نهار من أجل إطلاق موقوف أو إنجاح طالب أو تسجيله فوق كل القوانين في جامعة ما, ويعرضون عن دعم الجيش وفيه الضابط والانضباط بمعنى النظام والترتيب أو يتناولونه مباشرة أو بشكل غير مباشر في الأحاديث وفي وسائل الإعلام, ولا يسلم كل ماينتسب .‏

لماذا هذا الصراع التاريخي بين الصمت العسكري الكثير والكلام السياسي والإعلامي الكثير الكثير? ماهذا الغموض ولماذا عدم القدرة على الفكاك بين البصمات العسكرية والبصمات السياسية في تاريخ لبنان القريب? لماذا يتناول بعض سياسيينا بالتناوب الزي الأخضر بينما ينادي مجمل اللبنانيين مرتدينه ب:(ياوطن) وهي, كما يبدو بوضوح, مناداة صادقة وعفوية من أفراد الشعب اللبناني لايجوز التغاضي عن مدلولاتها الغنية وعدم التعمير الوطني في مدماكها, فالحس الشعبي غالباً مايتجاوز الحس السياسي لكن الغلابة تشله.‏

تطرح هذه التساؤلات المشروعة مجدداً وأخرى غيرها كثيرة من هذا النوع بمناسبة التمديد للعماد إميل لحود في رئاسة الجمهورية اللبنانية وما تبعه من اهتزازات وتوترات عرفها لبنان وسورية توخياً للجديد, والجديد لغة يعني أساساً التغيير أو إضافة أشياء غير معهودة إلى القديم المألوف(وتحت هذا الإطار يمكن التذكير بتصريح لحود الأول بطي صفحة الماضي والانكباب على العمل الجدي والتغيير) ونراها مسألة فائقة الضرورة والأهمية في الشكل وبعض المضمون للجمهورية و الإدارة ولمستقبل لبنان. تتقدم هذه التساؤلات لا لتزيل ذاك الغموض بل لتضعه في دائرة الضوء من حيث إنه واجب وطني متقدم, يطاول كل اللبنانيين ويعنيهم وهم ينتظرونه, وهو من الأولويات في تعزيز البناء الوطني الذي يفترض بداية تقريب الساحة السياسية من الوطن والتخفيف من غلواء السياسيين وتحاملهم على الوطن وسورية, والالتفاف والتقرب أكثر من الوطن وكسر حدة الصمت فيه, خصوصاً وأن في التاريخ اللبناني والعربي والعالمي أمثلة محفورة في الذاكرة وساطعة للدور الذي يمكن أن تقدمه البصمات العسكرية في إحداث التغيير, خصوصاً إن جاء مسلحاً بإيجابيات سياسييهم ومفكريهم الوطنيين فعلاً ومواقفهم الصافية.‏

في ضوء هذا الواقع المر, والإشكالية المتفاقمة نتساءل: كيف نقرئ أونعلم أولادنا في لبنان حيث فشلنا حتى الآن في وضع كتاب تاريخ واحد, وكيف نستمر نعلمهم ونقنعهم ونحفظهم في كتبنا وكراستنا بأن الاسكندر المقدوني(ذو القرنين) ضابط عصر أرسطو بيدقاً يختصر الفكر اليوناني وحمله يبشر به في بلاد فارس والعالم? أليس الفكر اليوناني كله الذي( نجتره) في جامعات العالم على صلة بتلك القدسية التي كانت اليونان تمنحها للتربية العسكرية والبدنية لأبنائها من أجل صحة اليونانيين كأمة في التاريخ جسداً وفكراً? وهل يجوز لنا الاستهانة باليونان القديمة وأثينا القوية المفلوشة تماثيلها في كل ساحة أصيلة ومستحدثة? ما إن استوينا أمام المستشرق الفرنسي جاك بيرك في مدارج السوربون في محاضرته الأولى حتى باشر: قال أرسطو وتابع رابطاً بين هذا الفيلسوف وبين الإسكندر(نعم قال أرسطو منذ 2487 سنة وهو مستمر كما الاسكندر قولاً وفعلاً حتى نهاية التاريخ).‏

كيف يجوز لنا أن نشطب بداية عصر النهضة العربية في العام 1789 مع دخول الضابط نابليون بونابرت إلى مصر وقد تناول الحرف المطبوع من حاضرة الفاتيكان وزعة مطبعة أولى في بولاق. إنه وعلى الرغم من الاعتراضات المنهجية الكثيرة التي تناولت بالنقد والرفض والتغيير لهذا التاريخ من قبل باحثين عرب في التاريخ والفكر السياسي والآداب( وبينها كتابنا بالفرنسية(مدخل إلى حداثة العربINTRODUCTION A LA MODERNITE ARABE الصادر عن دار الحداثة, ببيروت, 1986 فإن نابليون يحتل مرتبة أبدية في التاريخ الإنساني من حيث قدرته على إحداث انقلاب فعلي في الفكر والحضارة, طبعاً من دون إهمال فكرة أن نابليون جاء قاعداً فوق( عصر الأنوار) ومستلهمه وهو عصر مكتنز بالفلسفات والأفكار الفلسفية التي أسست للحضارة المعاصرة في الحرية والإخاء والمساواة والعدالة وقد رسخها, إذاً, ضابط في التاريخ ولو انحرفت الأمم المتحدةعن مبادئها الموضوعة للعدالة في الأرض, وماذا نقول لهم عن ديغول الضابط الفرنسي الذي أرسى فرنسا الحرة وعمم فكرها في العالم, يستحيل إخراجه من أحاديثنا وأدبياتنا?‏

وماذا عن الضابط ايزنهاور رئيس الولايات المتحدة الأميركية حيث العهد الذهبي في إخراج بلاده بشكل واسع نحو العالم, وكان الواضع الأول مع ضباطه لبذرة العولمة والانترنت التي وصلتنا بعد أربعين سنة من إخراجها هناك من تحت أقبية البنتاغون الحافل بأسرار الدول المسموح بها بالطبع? أليست السياسة الأميركية منذ أيزنهاور هي القائلة بأن أي رئيس لن يدرك مكانته, ولا يكتمل تاريخه إلا بإعلان نهجه العسكري الخاص وإشاعة الأفكار الأميركية في العالم?‏

إن باب المعرفة المعاصرةWWW بعد نقر رأس الفأرةmouse مسألة خرجت من رأس ضابط أميركي ساهر على معلومات في البنتاغون, وقبل فتح ماكنتوش في الكمبيوتر الخاص بالاستعمال الشخصي وللعامة. ماذا عن ماو تسي تونغ وجوزف ستالين وجوزف تيتو وأروين رومل وغيرهم كثر?‏

ماذا عن الضابط المصري جمال عبد الناصر الذي دغدغ الأحلام العربية بنبرته الصلبة في الوحدة والقوة العربية?‏

ماذا عن الضابط الطيار حافظ الأسد الذي دفع العالم إلى تهجئة القراءة السياسية من اليمين إلى اليسار وبقي هادئاً وحيداً يجهر بمواقفه الرائدة في القضايا العربية بعدما افرنقع الزعماء العرب من حول الطاولة العربية. وبقيت سورية وحيدة تمانع وتسهر الليل بهدف الكرامة والعروبة الراقية المعترف بها لدى الأمم? وعلى الرغم من قبض رئيسها الدكتور بشار الأسد على ناصية العين والرؤية الثاقبة وهو طبيب عيون, فقد طرز كيانه بالجبلة العسكرية حتى تبقى سورية شامخة ومعها يبقى لبنان. نعم يبقى لبنان ثابتاً مقاوماً لايغافل أو يراهن أويلحن أو يلعب تحت الطاولة على الرغم من التاريخ العابر المفاجىء للكثير من سياسيينا المسكونين بالازدواجية والقولين والفكرين في العلاقات السورية اللبنانية. لقد تمكن الضابط اميل لحود من ترسيخ الثوابت والمقولات الكبرى وماحاد عنها لأنه, ربما, من نسغ عسكري, عاش حياته كلها في الانضباط, له حلمه في تقريب السياسة من الأخلاق, فكيف ننجح في تلك المهمة إن كان معظم سياسيينا متنافرين أو متناغمين يقرؤون في كتاب واحد هو كتاب الأمير لمكيافيللي في المصالح الخاصة التي تجيز كل محرم?‏

لقد عرف لبنان منذ نشوئه تجارب ثلاث وشحت ملامح الحكم فيه بالقسمات والملامح العسكرية ونعني بها تلك العقبات التي كان يستوي فيها فوق الكرسي الأولى في بعبدا رجل طالع من المؤسسة النظيفة المنظوميةSystemique, وتعتبر المنظومية تلك من أحدث المناهج الفكرية في دراسة حركية المجتمعات المعاصرة, وتعتمدها الجامعات العالمية بعدما استلت مبادئها الأساسية من المنظومات العسكرية. وارتبطت هذه التجارب بأسماء فؤاد شهاب والجنرال ميشال عون والرئيس إميل لحود الممدد له وهما من كبار الضباط المعجونين في قدر المؤسسة الغالي بالاحترام والمهابة والتي تكاد تكون الوحيدة, في مؤسسات الدولة الرسمية, التي تحمل صفات المؤسسة التي يمكن أن يعرف المنخرط فيها منضبطاً أين يبدأ وأين ينتهي وماهي حقوقه وماهي واجباته مع أن الكفة الثانية, في واقع الأمر, أي الواجبات هي أرجح من الكفة الأولى, وخلافاً لذلك فإن الكثير من الخطب والمواقف السياسية في لبنان تخالف تماماً هذا المنطق فتفرغ الكفة الثانية من مضامينها, وتضمر في نبرتها أحياناً وفي سرها دائماً التشكيك في دور الأجهزة ومهماتها ومعانيها في بناء الأوطان وتحقيق منعتها ليس في التاريخ القديم وحسب وإنما أيضاًفي التاريخ الحديث. وقد تذهب في مغالاتها وأحلامها إلى التطاول في طرح أسئلة فاقعة حول هذا الدور والتخويف منه, الأمر الذي يورث الكثير من الاشكاليات الوطنية التي يصعب ترميمها فتغدو من فصيلة المستحيلات, وإذا كنا نعرض عن الفلسفة التي أدت إلى فعل( خضع) في الدستور اللبناني حيث جاء أن( رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء) والفعل المستعمل في غير موقعه, وقد كان يمكن تخفيف صياغته, ولم نفلح على الرغم من المناكفات والمناقشات الكثيرة فإننا نسوق هذه القصة عن الضابط والقائد فؤاد شهاب:‏

روى النائب السابق المرحوم فريد جبران أنه زار الرئيس فؤاد شهاب للقيام بواجب التهنئة لانتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية, وقدم إليه مذكرة مطلبية أدرج فيها العديد من الملفات والقضايا الاجتماعية المرتبطة بالفقراء والمعوزين مثل المكتب الوطني للدواء وقوانين الايجارات والتعليم المجاني وإصلاح الإدارات وغيرها من المسائل المزمنة والشائكة في تاريخ لبنان والتي أفنى النائب المرحوم حياته وهو يناضل من أجلها في الندوة البرلمانية أم في الأطر النقابية والعمالية المتنوعة. والموضوع ليس هنا, بل في الجواب المعبر للرئيس شهاب الذي خاطبه قائلاً: لقد خلصنا من الاستعمار الخارجي, ولكن المهم أن نبدأ ورشة التخلص من الاستعمار الداخلي.‏

والاستعمار الداخلي في أبسط تعريف له هو الطائفية وما نتج عنها من تلوث وقلة وفاق في الأعمال الحزبية والتجمعات والرشوات والسمسرات الإدارية والمحسوبيات والاستزلام والمحاصصةو ما إليها من تعابير ومصطلحات شائعة بكثرة في وسائل الإعلام لن نكررها وتجعلنا نتصور وكأننا لم نشكل وطناً نصبو إليه جميعاً.‏

طبعاً كان الرئيس شهاب الأول الذي يخرج من المؤسسة العسكرية في اتجاه الكرسي الأولى في حكم لبنان. لم يتمكن لبنان معه من التخلص من الاستعمار الداخلي الذي أشار إليه بالكامل, على الرغم من أنه فتح ثغرة واسعة في جدار سميك من الامتيازات الحصرية التي جعلت السلطة متشظية على التجار وأصحاب المصالح والورثة. كان يحول كل ذلك دون النهضة والتطور في لبنان. وجاءت بعض المؤسسات والأفكار الشهابية تطوق طبقة من الممسكين بعنق الدولة اللبنانية والراتعين في خيرات عثمانية -أوروبية عائلية وطبقية ثم طائفية حادة يستحيل التخلي عن أبسط مظاهرها أو معانيها, ودونها الحروب والموت والقتال حتى الأبد.‏

يستمر العماد لحود على الرغم من الحملات الضخمة التي يتحملها منذ أكثر من عام, ومثله يستمر الجنرال عون المسكون بالعقلانية برفع عصا الإصلاح ومحاربة الفاسدين الكثر, وأمامها الاستعمار الداخلي إياه مضروباً بألف من المصاعب والسنين وإلى جانبهما الأكثرية الغالبة من اللبنانيين المهددين في الرغيف وفي الغريب الغربي يقرع الأبواب. وإذا كان التمديد للحود قد أفرز فروقات هائلة بين الرافضين والمعارضين وتداخلت مواقفهم إلى حد فتح نوافذ الوطن للمتآمرين على البلدين بلغت حداً من العدائية الجارحة التي جعلت دمشق تخرج من لبنان, لكنها مابرحت تعيد وضع يدها على قلبها في المسائل الخارجية اللبنانية أو الاستراتيجية, وكاد البيت ينشق فينا بيتين, كما قال الشاعر خليل حاوي, فإن المهمة ليست مستحيلة لأن الواقع اللبناني هوغير ما يرشح عن الشاشات المصادرة والمطابخ الشغالة ومن يعش ير.‏

* كاتب لبناني- عضو الأمانة العامة في منبر الوحدة الوطنية‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية