|
ملحق ثقافي
وهو يوزّع الألحان على فرقته، كان مطرباً كبيراً، ومايسترو بارعاً أمام ألفي مشاهد تشكّلوا من جميع أطياف المجتمع السوري الحلبي، واللافت مساء ذلك اليوم لمن يتفحص وجوه الجالسين في الصالة الكبيرة أنه يرى أناساً يهبّون واقفين بحركة لاشعورية رافعين أيديهم الى السماء.. وهم يصيحون متمايلين:(الله. الله). إنهم فئة من أهالي حلب، يمتلكون الأذن الموسيقية المرهفة التي تلتقط أبعاد الصوت وروعة اللحن بدقةٍ متناهية، ويطلق على هؤلاء اسم (السمّيعةْ)،وهم معروفون في حلب، لاتفوتهم حفلة طرب أصيل إطلاقاً مهما كان السبب، وتراهم يتوحدون خلال الحفلات مع المطرب، واللحن، والكلمة، كأنّ كل واحد منهم ركن من أركان الاغنية. من هنا تميز تراث حلب الموسيقي بالأصالة والعراقة، لأن جمهورها الذوّاق للفن الرفيع لايقبل نشازاً، ولاتقليداً لتقليد فاشل. وأذكر هنا القصة الطريفة الشهيرة في حلب، إذ انه عندما غنى المطرب محمد عبدالوهاب للمرة الاولى في حلب، لم يكن يوجد من الجمهور سوى أعداد قليلة جداً، وعندما فوجىء بذلك تردّد كثيراً وفكر بالامتناع عن الغناء في هذه المدينة. لكنه عاد في اليوم التالي ليجد أن المكان قد امتلأ بالجمهور، والواقفون كانوا أكثر من الجالسين، وهنا أدرك(عبد الوهاب) أن الاشخاص الذين تواجدوا في الحفلة الأولى هم من أشاعوا بأنه مطرب يستحق الاستماع إليه، وهذا ما كان يحدث أيام زمان في حلب مع أي فنان غير معروف سابقاً لأهل هذه المدينة، وهنا أدرك عبد الوهاب أن الجمهور(السمّيع) موجود في حلب بشكل خاص، وفي هذا المجال قال الشاعر (إيليا أبو ماضي):« حيثما لقيت حلبياً فأنت مع فنان أو ذوّاقة فنّ». ولازلت أذكر كيف كنا في نهاية الخمسينات نتحلّق حول المذياع بصندوقه الخشبي الكبير، وعينه الساحرة الخضراء لنتابع سهرات (أضواء المدينة) وحفلات أم كلثوم مساء كل خميس من إذاعة (صوت العرب) في القاهرة. ولحلب تاريخها المتميز بفنون الغناء وألوانه، وبتفردها بالموشحات والقدود التي سميت بـ (الحلبية) نسبة إليها،وعندما كانت عاصمة للحمدانيين تميزت بالطرب والفن والأدب وخاصة في عصر (سيف الدولة بن حمدان) الذي كان يجتمع في بلاطه: أبو الطيب المتنبي، وأبو فراس الحمداني، ومحمد أبو نصر الفارابي علم الموسيقى الخفاق الذي لاتزال آثاره الفنية مناراً يقتدي به الفنانون حتى يومنا هذا.ولم يعرف الحلبيون الفارابي فيلسوفاً بقدر ما عرفوه موسيقياً، لأنه دخل حلب بآلة القانون لا بالفلسفة كان عبقرياً،و لكل عبقري شذوذ يرافق طباعه وأخلاقه أحياناً، فقد كان يعتقد أن الخمرة غذاء لحياته وجسمه ، يشربها في عزلته، ولايحب المنادمة عليها ويستدل على ذلك من قوله: بزجاجتينِ قطعتُ عمري وعليهما عوّلتُ أمري فزجاجة مُلِئتْ بحبرٍ وزجاجةٌ مُلِئتْ بخمرِ فبذي أدوّنُ حكِمتي وبذي أزيلُ همومَ صدري ومن أبرز صفحات الموسيقى الحلبية ذلك النوع المسمى بالموشحات الأندلسية التي تسربت الى حلب بوساطة المغنّي(زرياب الموصلي) الذي ترك بغداد قاصداً الاندلس، وعندما مرّ في طريقه من مدينة حلب استقبله أهلها استقبالاً لائقاً، وزادوا في إكرامه، وبقي بين ظهرانيهم مدة أخذوا عنه خلالها الموشحات والأزجال، وبقيت حلب على هذا النوع من الغناء حتى اليوم. أما رقص السماح فيدين في تطويره وتقديمه على الصورة الزاهية الحالية للفنان(عمر البطش) الذي عشق هذا الفن وعمل طوال حياته على رشاقته وتخليصه من الرتابة التي عرفت به ، فغدت حركات الأيدي والأرجل في هذا النوع من الرقص تنطبق مع إيقاعات الموشحات إذ يختصّ كل إيقاع إما بحركات الأيدي وإما بحركات الأرجل، أو بالاثنين معاً. وجعل عمر البطش رقص السماح أكثر رقةّ وعذوبة ،ونقل هذا الفن من حلب الى دمشق. وتذكر مراجع (أعلام حلب) أنه عندما ظهرت طالبات (دوحة الادب) لأول مرة عام 6491 يرقصن على مدرج جامعة حلب، وهن ينشدن موشحة(إملالي الأقداح صرفاً) ثار المتزمتون في مجتمع دمشق على إدارة المعهد وطالباته وعلى الفنان /عمر البطش/لكن التقدمية في نظرتها الى الفن انتصرت على الرجعية المتزمتة، محققة عن طريق هذا الرقص التراثي الرائع أول نصر حقيقي للمرأة في ميدان الفن، الذي كان كل من يزاوله- حتى من الرجال - محتقراً مذموماً، وبالرغم من ذلك فقد نبغ في حلب موسيقيون برعوا في الموشحات والقدود الحلبية عرفوا في معظم الاقطار العربية أمثال: علي الدرويش- سامي الشوا- توفيق الصباغ- جميل عويس- الياس فنّون- وفؤاد حسّون رحمهم الله وصبري مدلل أطال الله في عمره. وتحدث الاستاذ عمر البطش عن نشوء رقص السماح لمبتكرها الشيخ محمد عقيل المنبجي نسبة الى مدينة منبج التي تبعد ثمانين كيلومتراً شمال شرق حلب فذكر ان (المنبجي) المتوفي عام خمسئة وخمسين للهجرة هو أول من رتّب خطوات إيقاعية بالأقدام لتقوم بتأدية الايقاع بدلاً من الأيدي، وكان هذا الشيخ من العلماء المتصوفين.. وكان يقيم في داره الأذكار والحلقات الدينية لتوحيد الخالق، وكان له تلامذة ومحبّون مخلصون يعلمهم الأناشيد والتواشيح على الإيقاع وقد ابتكر لذلك حركات خاصة منوعة بالأقدام لتقوم بتأدية الإيقاع ومرافقة الغناء بدلاً من الأيدي، وقدتطور هذا الابتكار وأدخلت عليه خطوات عديدة، وأقبل الكثيرون على تعلمها والتفنن فيها. وقد طلب تلامذة الشيخ في يوم من الأيام (السماح) لهم باقامة حلقة ذكر في دار احد زملائهم لمناسبة جميلة يحتفلون بها عنده (فسمح) لهم بذلك، وتكرر طلب السماح من الشيخ في مختلف الاحتفالات، فغلب اسم السماح على هذه الخطوات الإيقاعية التي تؤدى بمرافقة الغناء الصوفي المبني على الايقاعات الموسيقية ، وانتشر السماح انتشاراً واسعاً بعد وفاة الشيخ المنبجي لما فيه من فنٍ أصيل يجمع بين الغناء والحركة والإيقاع، ويعبر عن الوقار والهدوء متمثلاً بحياة المتصوفين، ثم صاروا يؤدونه في الافراح والأعياد والمناسبات السعيدة، وأصل تسمية ( السماح) هو (السماع) لأنهم كانوا يسمعون في حفلات الذكر عند كل فترة من الاستراحة تلك الموشحات اللطيفة الجذابة ، ومن المعروف ان الشيخ صالح الجذبة الحلبي( 8581-2291) هو الذي قام بتدريب فرقة القباني المسرحية على رقصة السماح. و أبرز الفنون الغنائية التي تطبع مدينة حلب بطابعها هي (القدود الحلبية) وهي عبارة عن أغان قديمة حذف النص الأصلي منها، ووضع بدلاً عنه شعرأو زجل عربي، وذلك(بقدّ الوزن تماماً) لهذا سمي(القدّ) قدّاً حلبياً ومن هنا نشأت(القدود) التي تألق فيها الفنان الكبير (صباح فخري). وصبري مدلل الذي تتلمذ على أيدي كبار الموسيقيين أمثال عمر البطش ،وبكري الكردي يقول الفنان (صبري مدلل) في إحدى اللقاءات:« عندما كنت في العاشرة من عمري اصطحبني والدي- رحمه الله - الى (الكتّاب) حيث تعلمت القراءة والكتابة على يد أحد المشايخ الذي اكتشف جمال صوتي فطلب مني ان أؤذن كل يوم لصلاة الظهر في الجامع، وبعد سنتين أخدني الى الشيخ عمر البطش الذي علمني أصول الغناء وأداء الموشحات والأدوار والقدود». وصرت أذهب اليه كل يوم بعد العصر،وأعطيه أجرة وقدرها نصف ليرة سورية عن الدرس الواحد.وبعدهذه المرحلة اصبحت قارئاً للموالد في مدينة حلب، وكنت اصطحب استاذي معي الى هذه الحفلات، وكان سعيداً جداً بهذه الالتفاتة فطلب ان اقطع عنه الاجر الذي كان يأخذه مني في البداية، وصار يعلمني بدون مقابل مادي.وعندما أصبح عمري عشرين عاماً كانت أوضاعنا المادية قد تحسنت فذهبنا معاً الى إذاعة حلب التي كان يديرها آنذاك الفنان احمد الأوبري، وقد أعجب الأوبري بأصواتنا فصرنا نتردد على الاذاعة بشكل يومي تقريباً وعملت في كورس الاذاعة مع صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر وآخرين وكنت أتقاضى من الاذاعة مبلغ 57 ليرة شهرياً. أما الموسيقي الحلبي المعروف/ عبد الرحمن جبقجي/فقد ذكر لي في احدى لقاءاتي معه قبل وفاته مؤخراً بأن الفنانين الحلبيين لم يقتصروا على القدود الحلبية فحسب، بل كانوا يغنون الألحان الأخرى التي تصلهم من أقطار العرب. وغنّوا أغاني مصرية وعراقية وغيرها حتى إن حلب بحكم جوارها من تركيا عرّبت بعض الأغاني التركية الشعبية. وقال ان اشهر القدود العربية التي غناها الحلبيون هي : (الحنّة.. الحنّة) و(ياحلو يامسليني) و(بنت الشلبية). ومن الأغاني العراقية (فوق النخل فوق) و(يارب .. ياعالي شوفْ عبدَكْ) و(ربيتكْ صغيرون حسن) ومن الأغاني التركية (قدّك المياس ياعمري).. وغيرها. وإن أكثر القدود والأغاني الشعبية لاتعرف أسماء ملحنيها ولكن من الوفاء ان نذكر هنا فضل الفنانين العرب الذين صنعوا لنا كثيراً من هذه القدود والأغاني كالشيخ /أمين الجندي/الشاعر الحمصي المشهور، والموسيقي الدمشقي./أبو خليل القباني/والفنان المصري الخالد/سيّد درويش/ الذي كان يترجم احاسيس الشعب الى أغان وأهازيج مما لم يسبقه في عصره أي فنان مصري آخر:( طلعت يامحلا نورها)و(الحلوة دي قامت تعجن بالفجرية).و قال الجبقجي: إن هذه القدود المصرية والعراقية وغيرها من مختلف الاقطارالعربية التي انتهت الى سورية استوطنت فيها واكتسبت (حق الجنسية).لأن السوريين يرددونها في سهراتهم وأفراحهم من ناحية، ولأنها صنعت وحدة فنية بين الوطن العربي من ناحية اخرى.ووصلت هذه الأغاني الى حلب لأنهم كانوا يسمونها(أم الطرب) ولأن أهلها مازالوا ذواقين للحن الأصيل والطرب المبدع،ويقال:إن أي مطرب لايلمع نجمه إلا إذا زار مدينة حلب واستطاب اهلها فنه وغناءه، ومازيارات محمد عبد الوهاب وفايزة احمد، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة وغيرهم من كبار المطربين العرب وغناؤهم على مسارحها إلا خير شهادات على ذلك. ولاتزال هذه المدينة سيدة الموشحات وأمّ القدود على الاطلاق منذ انتقال هذا الفن إليها من (غرناطة) في الأندلس حتى يومنا هذا. ويقول الباحث الموسيقي / صميم الشريف/في كتابه(الموسيقى في سورية) إن الموشحة بصورة خاصة هي نظم خرج به مؤلفوه عن الاوزان المتعارف عليها في الشعر بإدخال حركة أو كلمة تتخلل القفل، وقد استوحى الموسيقيون في الاندلس الموشحات فغنوها حتى استقامت لهم فيها أساليب معينة. وماتزال هذه الاساليب معمولاً بها في المغرب والجزائر وتونس ويطلق عليها اسم(المألوف) وهذه التسمية لم تأت عفواً،وانما من عرب الاندلس الذين نزحوا بعدكارثة سقوطها التي حلت بهم الى الشمال الافريقي العربي، فكانوا يقولون لبعضهم بعضاً كلما تنادوا في الامسيات الى عقد حلقة من حلقات الطرب: تعالوا نغني ما(ألِفْنا غناءه) أي ما ألفوا غناءه في الاندلس. ومنها جاءت تسمية الموشحات بـ(المألوف) أو( المآلُوف) كما يستخدم حالياً في تونس حيث توجد مقاهٍ ونوادٍ خاصة للمالوف. وقد حافظ عرب شمال افريقيا على القالب الفني للموشحات كما ورثوه من عرب الاندلس باعتباره (أغنية للمجموعة). ومن القدود الحلبية انبثق(الدَوْر) وهو نوع من الزجل ينظم متحرراً من فصاحة اللغة والاوزان العروضية المعروفة. ودخل الدور الى سورية في بداية القرن الماضي فلحّن فيه شيوخ الملحنين الحلبيين من امثال:/الشيخ علي الدرويش/ الذي لقّب بالشيخ لدراسته في مدرسة دينية، وبالدرويش لانتسابه الى الطريقة المولوية الصوفية.. وعمر البطش، وبكري الكردي،وصالح المحبّك، واحمد الأوبري، وكميل شمبير، ومجدي العقيلي، وممدوح الجابري وغيرهم. وبفضل هؤلاء العمالقة اقيمت في مدينة حلب عدة أندية ومعاهد موسيقية أشهرها (نادي الصنائع النفيسة) و(نادي حلب الموسيقي) و(نادي الشهباء الفني) و(نادي العروبة للآداب والفنون) و(نادي الجمعية الأرمنية) وغيرها من الاندية التي تخرج منها اشهر الفنانين الحاليين ومنهم/صباح فخري- عمر سرميني- حمام خيري- شادي جميل- نور مهنا- عبود بشير- نهاد نجار- ميادة بسيليس- صفوان العابد وغيرهم من المطربين الذين اجتهدوا وأبدعوا في مجال القدود الحلبية. وماتزال هذه الاندية الفنية خزانة كبيرة، قوية ومحصّنة، تحافظ على التراث الفني، وتحفظ لمدينة حلب ألقها وبريقها بشكل متواصل ومستمر في العطاء، ولأنها أنجبت وما زالت تنجب كل فن أصيل، فإن فنانيها كواكب مضيئة في سماء الوطن العربي من الأستاذ صبري مدلل أكبرها سناً حتى (شهد برمدا) أصغر وأحبّ (ستار) سوري. لذا يحق لحلب بكل فخر ان تكون عاصمة للثقافة الاسلامية. |
|