|
ثقافة
إنه النحات والتشكيلي «بشار برازي» الذي ولأننا شهدنا الأحمر يضرّج لوحاته النازفة بأوجاع سوريته-حبيبته، وحلب-أمّهْ ومسقط قلبه. أيضاً، لأنه من المتمرّسين في فنِّ النحتِ الذي اضطرَّته الحرب لمغادرة ورشته، والانطلاق إلى تشكيل الحياة بريشةِ الجمال والاحساس والانتماء وسواهم مما خصَّهُ برسالته.. لأجل هذا وسواه، حاورناه وسألناه: • «ياحاديَ العيسِ، ضع بصمتي بينَ التوابل، لتضيعَ عن ختميْ الذئاب. أنا صانعُ الفخارِ من طينِ آدم، من أناجي والقلبُ تمطرهُ الحراب؟». هي صرختك، فهلاَّ عرفتنا بكْ وصولاً إلى تميز بصمتك؟. •• مستطيل المعرفة معلَّقٌ على جدارٍ شاحب، يستقبلنا كل صباح فننتظم أمامه لنتنفس القيمة والقيم، وآخر الغزوات وأطول الأنهار. هو.. السبورة السوداء التي كان الضوء يسطع عليها فرحاً من تأثير الطباشير الملونة التي يعطيني إياها المعلم، والتي كنتُ أخطُّ بها ما يجعلني مزهواً بفرحٍ أرسمهُ على وجوه الطلاب. في الثانوية كنا نحلم، وكنتُ أبحثُ عن مكانٍ لتعلُّم الرسم الصحيح.. في مطلع الثمانينيات زرتُ الشام لأول مرّة، وضمَّني البهو الصغير لكلية الفنون الجميلة.. قلقٌ مفرحٌ انتابني وأنا أرى أعمال النحت الرائعة في القسم المدهش الذي تخرجت منه.. أحبُّ الرسم لأنه الجمال والحياة وكل مادفعني للشكوى لـ «حادي العيس» قائد مسيرِ التحرر من طقوسِ المكان. رسول العشاق، وبئر الأسرار المدهشة بترحاله الدائم.. الشاهد الموثوق على الحضارات كلها، ومن يكتشف الغامض ليرويه بطريقته.. كل مادفعني لأن أشكو له، بتداعياتٍ مكتوبة ومرسومة بصفتي ابن سورية العريقة والعميقة في التاريخ، علُّه يجد طريقة لوقفِ الدمار المتكرر في كل حقبة. • بدأتَ بفنِّ النحت مستدعياً الرموز الأسطورية. أي الأساطير أثّرت بكَ أكثر فخلدتها منحوتات إبداعية؟. •• شدَّتني شخصية البطل «انكيدو» في ملحمة جلجامش الرافدية.. البطل المتوحش ورجل الغابات الذي اكتشف جسده وإنسانيته عندما تعرف على المرأة، والذي وإن أفقدهُ تركه لقطيعه ومكوثه معها سبعة أيام قدرته الفائقة في الجري، إلا أنه زادَ من معرفته الواسعة. لقد قمتُ بنحتِ أعمال ثلاثية كبيرة «جداريات» تمثل «انكيدو» في الغابات، وكيفية تعرّفهِ على المرأة.. تمثّله أيضاً، وهو في المدينة والمدنية.. إنها الأسطورة التي جسدتها في أول أعمالي النحتية، وضمن معرضي «ما خفي أحلى» الذي أقيم في صالة «الخانجي» بحلب.. • يشعر من يتابع أعمالك، بسعيكَ للعبِ على الفراغ. أهو سعيٌ للتميُّز، أم هروبٌ من التقليدِ بابتكارِ الخاص والجديد؟. •• سعيت للتميُّز منذ بداياتي، وفي معرضي «ما خفي أحلى» حيث أهملتُ الكتلة الضخمة للمنحوتة، وركزت على الخط في الفراغ.. طبعاً، لست سباقاً في ذلك، لكن اللعبة أغرتني بمتابعتها وتطويرها بهدوء. رأسٌ ويدان، أو قدمان محصورتان وموزعتان على مربعٍ أو مستطيلٍ واسع وفارغ. أترك للمشاهد حرية إكمال الخطوط بصرياً، وبما يناسب رؤيته. المرحلة التي تلت ذلك، في معرضي الثاني بصالة «فاتح المدرس» في دمشق، فقد بقيت الخطوط المعدنية معلقة في الفراغ، مع إهمال تام للكتلة. نحتُّ أيضاً، أعمالا معدنية ضخمة للمفاتيح والراقصين والعازفين، بحثت فيها عن قليل من الاختلاف الذي يجددني. • تقول: «اللوحة لديَّ نصٌّ بصري، يحمل دلالاتٍ يتلقفها المتلقي حسب مخزونه الثقافي والفكري..». هل هي دعوة لقراءةٍ تميزك وترسخك؟. •• تنطبق على النص البصري مقولة: «كل يغني على ليلاه» ويقرأه المتلقي حسب ثقافته الفكرية والبصرية، وبعض القراءات اللغوية تعطي النص البصري بهاءً أكثر، وتضيف إلى قيمته قيماً أوسع. هي دعوة لقراءتي وتلمُّس سعيي للهروبِ من مطبِّ التشابه والتشاكل مع التجارب الأخرى. أيضاً، سعيي لتثبيت بصمتي بتكرارها وتطويرها، علَّني أترسَّخ ولو قليلاً في الذاكرة الجمعية. • تقول أيضاً: «ربما تكون دمشق حبيبة أو عاشقة، لكنَّ حلب أمٌّ تختبر أبناءها ثم تعطيهم كلّ مالديها. أيهما أعطتك أكثر فمنحتها بأعمالك الحب الأكبر؟. •• «دمشق» حبيبتي، وأنا كالحمام يسلبني المكان والوطن عدة شوارع وأقرباء، وقلة من الأصدقاء والكثير من الذكريات، وقد قلت: أحياناً لا أصدق مولانا «جلال الدين الرومي»، فتأويل العشق يفقده الجهات. الشام، الأميرة المتألقة المعشوقة دائماً، وإن رحلنا عن قاسيونها وياسمينها فقد نقشت حضورها في الذاكرة.. أما «الشهباء» الأم، فمنحتني حنانها وجلالها وأسوارها وقلعتها. إنها الشاهد على نموي وانتمائي. عشقت صالاتها ومطربيها وعازفي الأصالة في كل شارع فيها، وأغلب إنجازاتي في التصوير والنحت، تمت في أحضانها. • الأحمر، هو لونٌ غلبَ على مساحات لوحاتك. هل السبب تداعيات الحرب، أم رغبتكَ بتضميدِ جراح الحياة، بالحبِّ والفرح؟. •• للأحمرِ احتمالات الفصول. زهرياً يلمُّ نداه خلف أسوار سجنه. وردياً زاهياً في أول امتزاجٍ لأطرافِ الأنامل. نارياً يحرق بركان المياسم. نبيذياً يُنثر على شفاه العاشقين. دموياً يدمِّر ما تبقى من قرصِ الشهد وخصر الورد.. فصلٌ من الثمالة ينقش في الذاكرة.. ومازال الأحمر يسرقني. أحاول الهروب أحياناً، لكن بوصلة فرشاتي تقودني إليه.. هو الحرب والحب.. لون نهايات الدمار وبدايات العشق. • من أشهر لوحاتك «تداعيات القهوة» و»المدينة أنثى يحاصرها الرماد» ما القاسم المشترك بينهما، وأيهما كانت تداعياتها أكثر تأثيراً عليك؟. •• تداعيات القهوة نصٌّ شعري طويل، تركتُ فيه لغتي وهواجسي تسبح بما تعلمته من العوم، وكنت أنقِّح ماأكتب مع رشفات القهوة صباحاً، والتداعيات تواكب رسم اللوحة ولا تساير النحت. «أنثى يحاصرها الرماد» هي المدينة-اللوحة، التي سيطر عليها الرمادي والأسود، كما المرأة «قلعة حلب» التي ما زالت ورغم الحزن الذي يكلِّلها، تقف بشموخٍ وسط الدمار.. أما «تداعيات القهوة» فقد سيطر الأحمر على أغلب مساحتها، وتبدو المرأة الراقصة وكأنها ستهوي، لكنها تحاول جاهدة التوازن، فالجسد متين وصحيح ومرهق. فناجين القهوة في اللوحة، مهملة وسط الشظايا والضجيج.. تدرجات الأحمر، مقارنة بين قهوة السلام والحب، وأحمر الدمار والنار والانفجار. • كلمة أخيرة. هل حقَّقت ماسعيتَ إليه من فن النحت والرسم، وبرأيك، ما الذي تحتاجه هذه الفنون، لتنشرِ الجمال والنورِ أكثر؟. •• الفن والثقافة مرآة الشعوب، وهما بحاجة لمواهبٍ وداعمين ورعاة واعين يميزون بين الغث والسمين.. أتمنى الاهتمام بالفنون أكثر، وعدم إقصاء أي فنان. مازلت أبحث عني في تداعيات اللون والكتلة والكلمات. أحاول تمويه قلقي المديد بفرحٍ ملون، فشكراً لمن رمى لي قشَّة أتمسك بها، ولمن أهداني قطعة من ظلِّه لأستريح. |
|