تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رواية (فسوق) الهرب.. كحيلة أخيرة..

كتب
الأربعاء 6/12/2006
أيمن الغزالي

هربت من قبرها!

قالوا إنها هربت من قبرها!‏

... منذ كانت صغيرة تتحّرش بالرجال, وتطفح ملامحها بسعادة الدنيا حينما يحملها رجل بين يديه, تقدم لخطبتها عشرات الشبان, ورفض أبوها تزويجها, ربما كان يخشى أن يُفتضح أمر ابنته, ويعرف القاصي والداني أنها فقدت عذريتها, ويلحقه عارها.)‏

هكذا قدم الكاتب روايته (فسوق)سيرة جليلة الوهيب الطاهرة, والتي اقترفت ذنباً بحبها ل(محمود الوبل(والذي قُتل مؤخراً في العراق بحادث تفجير , بعد أن تم القبض عليه مع جليلة في سيارة ذات يوم على شاطئ البحر (طريق التحلية) وهم يفكرون بمكان لدخوله لتناول الغداء من قبل دورية من(لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والثانية وفاة جليلة أما الوالد محسن الوهيب فقد فقد جليلة الحبيبة وجليلة البنت وكلاهما لنفس السبب (الحب).‏

عالم مليئ وفكر بصير في ظلام يكاد أن يكون دامساً, إذ ليس من السهل أن نبدأ, من حيث بدأنا, أو من حيث انتهى الآخرون, كلنا هنا في النهايات المراوغة وما بين البداية والنهاية شيء يدعو للتساؤل ويدعو للدراسة بآن معاً, وهذه المرة لم تعد القصة التي اختارها الكاتب جسراً أو عربة تحمل مشاعرنا العميقة, ولم تكن أيضاً سيرة لتحميلها ألغام وقنابل قابلة للانفجار, لقد كانت السيرة بحد ذاتها الجسد الحقيقي للرواية وهي تتكيف مع السياق العام للروي وتغير تفوق مركزية الدافع للضرورة التي تقتضيها تقنية السرد بشكلها المعاصر الذي كانت عليه الرواية منذ مشارفها الأولى, بشكلها المعاصر وراهنيتها وهي تتوالد بشفافية ساحر ولغة سردية سهلة وحدث مختزل عند المفارقات المأساوية التي ضجت بها الرواية في لعبة لغوية فاجعة وكارثية بآن, تحولت فيها الحساسية إلى جراح دامية في محاولة تتمثل بالنزعة القوية للبحث عن جماليات الاختلاف والتطرف معاً في مجتمع يغرق في القتل والمشاركة.‏

يقول كونديرا في الخلود: (... لم يعد فن السرد يقوم على تتبع حياة الشخصية أو مغامرتهما, بل على مصاحبتها والتفكر بها, تارة عن طريق الاستغراق كلياً بها, وتارة عن طريق الابتعاد عنها من أجل فهمها وإعادة تأويلها ونسيانها والانتقال إلى شيء آخر).‏

هكذا نسج عبده خال روايته, عبثية كالعالم, لغوية ومبطنة كالحقيقة التي تحدث عنها ومحيرة وممزقة وتشاؤمية وقلقة على عكس الروايات التقليدية التي تصيد في الماء العكر, حيث الصراع في محاولة الرؤية من الداخل هذه المرة وإعادة الأشياء إلى مفهومها الأساسي وعواملها الأولية حيث تبدأ في الظلام, ووعي حاد لتشخيص مواصفات العالم المتغير والمتبدل باستمرار سواء بأحداث تاريخية مهمة قلبت المفاهيم والقيم أو بثورات أو بتطورات تكنولوجية عززت غريزة الإنسان على حساب إحساسه, لكن هنا يتحدث عن شيء آخر غير ذلك, وهو جملة مفاهيم )الاجتثاث, العدالة, الإنسانية, الحرية, المساواة) ومن هنا حدث التغيير في تشكيل الشخصية الروائية التي بنيت عليه شخصيات روائية وعلى أساسها تم تعديل بنية السرد الروائي ومع ذلك ينبغي أن لا تسلم تمامً وبشكل قطعي بأن هذه الأسباب وحدها هي الوحيدة وإنما هناك أسباب حسية ونفسية ووراثية تطورات خارج التطور الطبيعي للحياة والقيم والمفهوم. هكذا حدث في سيرة جليلة محور الرواية وأسها القيمي في محاولة ناحجة للكشف عن جزء هام من علاقة الرجل بالمرأة وتشريعاتها في مجتمع مغلق مجيراً سيرة جليلة للإطاحة بكل هذه المستورات والعيوب بلغة قلما نجدها في كتب الأدب نظراً للقوة والسهولة والنضج والتكثيف, لغة تكاد أن تراها وهي تتحرك كرمال شعرية نادرة. ناقلاً جغرافية الرواية إلى جغرافية البيئة التي ولدت فيها ببراعة محاولاً تحريك عامل هام وهو مفهوم(الإجتثاث) في قيم مجتمع قبلي بدوي ريفي استدعته المدنية, بهذا الاجتثاث, حيث تم نقل الثقافة الساكنة إلى الثقافة المتحركة لتموت المدينة في أذهان هؤلاء البدو والريفيين وتتحول إلى رمز للفساد والانحلال مثلما حدث في معظم عواصم الوطن العربي, ولهذا وفي محاولة يائسة للحذر من هذا الجو الممغنظ جعل من الثقافة الساكنة تنكمش على ذاتها في أنماطها السلوكية الثابتة خائفة من التطور والتغيير فكان اجتثاثاً مضاعفاً حيث أصبح العصر أكثر سرعة وتواصلاً بعد ثورة الاتصالات ولهذا حلت الثقافة الساكنة التي تعتمد على عنصري (الانتظار العادة) لاستقبال مواقيت معلومة وهذا ما يفسر أننا دائماً نتجه ونسير وفق ردة الفعل التي تحدث بفعل التراجع والانكماش والحيطة والحذر ولا يمكن لهذا من إحداث فعل مع وجود فرضيات لما يحدثه ذلك الفعل ومن هنا تولدت العادة والانتظار والتي لا تصلحان للمدنية المتحركة وبسبب حياة العادة والانتظار استوطنت حشرات اليأس والخشية في المجتمع وتحول فيه كل شيء إلى عادة (العبادة, العمل, الزواج, الأسرة, والحياة أيضاً).‏

بهذا التحليل يفصح الكاتب عن خلفيات هذا المجتمع الذي ينتج مثل ( شفيق) حارس المقبرة والذي انتشل جثة جليلة من قبرها بعد وفاتها بيوم واحد ووضعها في ثلاجة لتصبح خليلته كل يوم خميس وهو الغريب عن قيم هذا المجتمع وعاداته وتقاليده.‏

ثلاثتهم (أيمن وفواز وخالد) يطرحون السؤال (أيمن ضابط التحقيق في قضية لسرقة جثة جليلة من قبرها, وفواز أبو نقطة وخالد الراوي في محاولة لفهم الصراع الاجتماعي والديني معاً.‏

فيرى أيمن أن المحو والكتابة هما الوسيلتان للتغيير بينما يرى فواز أن الاقتثاث ونوعيته هما المتحكمان في التغير ونوعيته في موازاة لرأي أيمن الذي يرى بأن فقد الحرية يعني فقد للمساواة وفقد المساواة يعني فقد العدالة وضياع العدالة يجعل الظلم شخصاً مجسداً. وهذا ما حصل في مجتمع نصفه الآخر معزول ومقطوع الرأس حيث تحولت المرأة فيه بفعل العزل والقطع إلى كتلة لحم هم الرجل مضغها ومص دمها دون الحاجة إلى معرفة قبولها أو رفضها بهذا المفهوم تحولت جثة جليلة إلى خليلة شفيق.‏

والمشكلة هنا فقهية فحين يتعطل الاجتهاد ويقف عند حد لا ينظر فيه إلى قيمة العصر وتحولاته, عندها تتحول الحياة إلى متحف, كل شيء فيه جامد ومحنط لهذا فالمحو هو الوسيلة الأمثل لإعادة تصنيعنا كي نتلاءم مع واقع أكثر عدلاً ومساواة.‏

يخلص الراوي (خالد) إلى أن أحكامنا ليست شرطاً أن تكون صائبة في محاولة للكشف عن مكان الحكم وهذا ما يدل عليه (محسن الوهيب) والد (جليلة) والذي يعترف بأنه هو ولجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تناصفا الجريمة الأول في عدم تزويج ابنته لحبيبها والثانية لفضحها ومحاكمتها على المشاهدة فقط بينما الشرع ينص على غير ذلك. وبهذا يثبت خالد لعبة الاجتثاث التي حولت الرواية إلى بيئة خصبة لإظهار فلسفة عالية في الدقة والاجتهاد مرسومة بريشة أديب فذ في تحميله الدوافع والأسباب لمثل هذه الجريمة التي لا يزال خالد (الراوي) ينظر إليها بإحساس وإنسانية وذاكرة عارية كذاكرة أبينا آدم وهي بالأصل ذاكرة الحرية, بينما الذاكرة الحافظة هي ذاكرة الأنظمة والمنع والقمع والشائعة وبهذا ولدرء الشبهات تم إضعاف الدين وتحويله إلى جماعات تفتيش تحرم وتحلل كيفما تشاء وبهذا تم خلق مجتمع باطني يتحلل بسرية تامة حوّل سيرة حب جليلة الطاهرة إلى فضيحة وجريمة.‏

الكتاب : فسوق‏

الكاتب: عبده خال‏

الناشر دار الساقي 2006‏

256 صفحة القطع متوسط‏

***‏

(كان يريد أن يهتم أحد بألمه اهتماماً عميقاً جداً بما يكفي لاحتضانه, عميقاً بما يكفي لهدهدته, عميقاً بما يكفي للسؤال: كيف تشعر? هل أنت بخير? هل تريد بعض القهوة?) بهذه العبارة للكاتبه الأميركية توني موريسون افتتحت اعتدال رافع مجموعتها القصصية الجديدة بوح من زمن آخر صادرة مؤخراً عن وزارة الثقافة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية