|
ثقافة وكنت أقول لنفسي, إنه العصر العربي الرديء, ولابد أن يجيء عصر عربي آخر, يمحو خطايا العصر الأول ويكفّر عن ذنوبه, وها أنا أكتشف بعد طول الصمتِ والصيام, بأن العصور العربية كلها أتعس من بعضها, وأنها تتشابه كحبَّات الرز وعيون الصينيين, وأنه محكوم علينا أن نبقى تحت العباءة الكثيفة المصنوعة من الغبار والملح والحقد والشتيمة, إلى يوم القيامة».
هي مقدمة, كتبها شاعرٌ لأنه وجد بأن مهمته جعل مساحة القبح في العالم أقل, حاول لكنه عجز لطالما, اكتشف بأن مساحة القبح في العالم العربي أكبر من مساحة أوراقه, ومن مساحة هذا العالم نفسه.. نعم عجزَ معترفاً بلا جدوى الشعر»عندما يصير غالون البنزين أكثر قيمة من كلّ قصائد المتنبي» و«عندما يصيرُ النفط أميراً للشعراء» و«الشمس العربية إسوارة من ذهب مرهونة لدى مرابي يهودي» و«امبريالية الغرب, هي إمبراطورية الرمز والباطنية» و«امبريالية العرب هي امبراطورية البطر والفضيحة». إنه «نزار قباني» الشاعر الذي اعترف بكل ذلك عبر «شيء من النثر» الكتاب الذي كان شاهداً على أهوال وفجائع الحرب الأهلية اللبنانية. تلك التي أوجعتهُ مثلما أوجعت كل عربي آمن إيمانه, وبأن: «المعركة بين السكاكين ورقاب العصافير معركة قديمة قديمة ولكن, نظرة واحدة إلى السماء وإلى ملايين الأجنحة التي تخترق المدى الأزرق كل صباح, ومن الشمال إلى الجنوب, ومن الشرق إلى الغرب, تؤكد أن المعركة تنتهي دائماً بانتصار العصافير». هذا ماآمن به شاعرٌ لأنه لايستطيع أن يكره, ولأن الحقد والكراهية ليستا مهنته, أبى إلا أن يوجّه «رسالة إلى مسلّح». كان ذلك بتاريخ 5/5/1978 حيث سطّر وبعد أن شعر بأن الحزن والرعب باتا يملأن أيامه وحياته. سطَّر مايصلح لكلِّ الأزمنة التي نشهد ماشهده فيها, ومن اعتداءات يقوم بها كلّ من خاطبه عبر كتابه: «إنني لاأعرف اسمكَ الحقيقي, ولاعنوانك الحقيقي. فجأة, نسيتَ الخبز والملح والعشرة الطيبة, وطويت بساط المودة ووضعت البارودة بيني وبينك, وبدأت تكلّمني بلغة أخرى هي لغة العنف. اللغة التي هي الوحيدة في العالم, دون قواعد أو أصول أو أبجدية, والتي لايضطر المرء كي يتعلمها للذهاب إلى المدرسة, لأنها غير موجودة في الكتب والقواميس, وإنما فقط في ملفات تجار السلاح. كنت تطن أنَّك بالسلاح تلغيني, وتسجل هذا الوطن في الدوار العقارية باسمكَ وحدك. لكن, ماذا تفعل بكلِّ هذا الوطن الجميل وحدك؟. تخزِّنه؟! تقدِّدهُ؟! تنقعهُ وتشرب ماؤهُ؟!. ماذا تفعل بالبحر والثلج, والمطر, والحبق, وبساتين اللوز والتفاح وعرائش العنب؟. ألاتعتقد بأنكَ ستُفجَّر وحدكَ في وطنٍ لاتسمع فيه إلا صوتك, ولا ترى في ماء ينابيعه إلا وجهك؟. إن أي وطن تحلم به, سيكون وطناً كيميائياً إذ لم أسكن فيه». كل هذه المقاطع, اخترناها مما أرسله «قباني» في «رسالة إلى مسلح» وبعد أن أدمته خيانة العرب, وحروب العرب, وتخاذل العرب. العرب الذين سخر من جهلهم وقبحهم وفضائحهم وأمراء نفطهم, ومن كلِّ ما اضطرّه لمغادرتهم إلى قلب القصيدة.تلك التي اختارها وطن وأم وأخت وحبيبة. اختارها الأمينة على مفرداته، وإلى أن رافقته إلى مثوى خلوده الأخير, ليُطلقها «رسالة من تحت التراب»: من هاهنا.. من عالمي الجميل.. أريد أن أقولُ للعرب الموتُ خلف بابكم.. الموت في أحضانكم.. الموتُ يوغل في دمائكم وأنتم تتفرجونَ وترقصون وتلعبون.. وتعبدون أبا لهب نعم, هي «رسالة من تحت التراب» القصيدة التي وصّى بألا تُنشر إلا بعد وفاته, وحتماً لأنها تصلح لكلِّ زمان ومكان.. تصلح لأن تبقى صرخة تقرع آذان العرب المستعربين المتخاذلين المتآمرين. صرخة, لاتتوقف عن تأنيبِ من خاطبهم بعد أن أتعبوه مثلما أتعبوا العروبة: من هنا أريدُأن أقول للعرب لاتُقلِقوا موتي.. فلقد تعبتُ.. حتى أتعبتُ التعبْ |
|