|
معاً على الطريق وكان أهلها الطيبون نائمين في الحلم والسكون ليفسحوا مكانا للمخيلة علها تخلق مدينة فاضلة تتسع للجميع . والجميع هناك.. ليسوا كالجميع هنا.. ولا بد من جسر يصل بينهما كي يستطيع التاريخ أن يعيد نفسه وكي تتجاوز الخيول كبوتها فتنهض وتتابع المسير.. لعل المتنبي يمر هاهنا , أو هناك ويعترف أن التاريخ قابل للتزوير, وأنه الذي – مالىء الدنيا وشاغل الناس وينام ملء جفونه عن شواردها - يكذب.. ويعطي كافور صفات ليست به وليست له.. ثم ينقلب عليه ويشتمه.. كأنما الجسر انقطع فابتعدت الضفتان.. مرّ خلق كثير وتبدلت الأحوال ولم يعد الجسر موصولا» بين تاريخ كتبه المنتصر وبين تاريخ زيفه المهزوم.. ولم تعد القصائد هي التي تؤرخ لأمكنة سكبنا عليها المهج ونقشنا عليها أحرف زمن لم يأت . لم يأت الزمن الذي انتظرناه وأسسنا له.. بل جاء زمن بغيض.. جرّ وراءه خيوله المريضة.. وساق أمامه قطيع الأمكنة المغمسة بالدم.. وقف الخلق يتفرجون على أطفال صاروا كهولا» وعلى شعراء ماجنين صاروا شيوخا» يدعون إلى الذبح وشرب الدماء.. ومرّ قطيع النساء.. خيام معلقة على كهوف مجهولة.. لا الضوء يعبر الحنايا ولا الصوت يرمي الحكاية ليقرأ ها البشر ويستدلون على المعنى أو يفهمون المبتغى.. لقد أينعت الجسور وانقسمت السطور.. وصارت هناك أمكنة للمقابر وأمكنة لتاريخ يحترق.. وفي الخلف وقف ابن خلدون صامتا» صاغر الفكر.. معقود البصيرة.. لم يجرؤ على الكلام لكنه بكى وهزّ رأسه ثم نخّ وكتب على تراب قال عنه أبو العلاء المعري يوما» ( ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجداث ) ليست هذه مدينتي الفاضلة أيها الأسرى .ثم سقطا» مغشيا» دون أن يشرح كلمة الأسرى .فهل قصد أننا أسرى جاهليتنا القديمة ؟ أم نحن أسرى عقولنا الضيقة ؟ وربما يقصد أننا مأسورون ومكبلون بالفكر الصهيوني الذي يخطط لنا كيف سنرى ابن خلدون.. ونحن كعادتنا تتوقفت لدينا كل الاجتهادات والتأويلات ونجلس في بداوتنا وعاداتنا وتقاليدنا.. ننظر إلى وجودنا على هذه الأرض التي تسير إلى حتفها بفضل فتاوى التكفير والزندقة والذبح والمشايخ المتصهينين ؟ نعم للأماكن ذاكرة.. ولابدّ أن يتحسر المرء عندما يتذكر أنه عبر ذات زمن جميل ساعة حمص القديمة وقرأ التوقيت , ثم اتجه إلى الساعة الجديدة وقرأ مرة أخرى التوقيت , فوجد أن الفارق أكثر من ألف عام . كأن ديك الجن يقف عند الساعة القديمة ويكسر أقداحه الفارغة.. وإذ يتجه إلى الساعة الجديدة يجد طابورا» من الأطفال المحمولين على أكتاف أمهاتم والدماء تنهمر من الرؤوس الصغيرة لتملأ الساحة وتتجه إلى شارع الدبلان.. هنا كنا نتسوق.. وهناك كنا نسير باتجاه اتحاد الكتاب العرب.. وفي الخلف رابطة الخريجين والشعراء يدلفون ويهللون للقصيدة , والقصيدة عن الجميع غافلة تحتفي بنفسها فقط ولا تدير رأسها باتجاه أحد.. ولأن أحدا» لم ينتبه لحزنها لم تشكل نبوءتها ناقوسا» يقرع ولا جرسا» يدق ( أن أفيقوا يا بني البشر ) ولم نفق حتى سبق السيف العزل.. تطايرت رؤوس.. وخرجت أماكن من الذاكرة.. شرفات غاب عنها الحبق والقهوة.. وشرفات نزلت إلى الشارع وصارت كومة ردم تحتها عشرات القصص.. وعشرات القلوب الدامية . قومي أيتها الأماكن الحبيبة.. قومي من صوب بصرى الشام ومن صوب قاسيون.. سيري باتجاه القنيطرة ومري بتل أبي الندى.. اعبري ( وادي الصراخ ) لا تلتفتي لمسيلمة الكذاب .ولا لبني قريظة الواقفين خلف الطابور.. سيري باتجه جبل الشيخ وانظري إلى جبل الأقرع في الشمال.. حيث الشمال البحري وأنطاكية وباقي اللواء.. حيث حلب والمتنبي يقرض التحدي في حضرة زمن بهي.. وآه.. ربما تقوم من كبوتها الرقة فقد يعبر هارون الرشيد ضفاف الفرات وقد يعبر المستقبل دجلة فيصل جسر دير الزور بالحسكة ثم يلتف الملتفون إلى تدمر ليصافحوا زنوبيا ويلقوا على تاجها السلام .وإذ يستدير الجميع.. تستدير الأزمنة وتطلق صرخة في أعالي الصمت.. أيها القابعون في القتل..انهضوا من دماركم واحتفوا بالروح.. للمكان روح.. وللبلاد روح.. وللمستقبل ذاكرة.. فأي ذاكرة ستتركون للوطن ؟؟ |
|