|
شؤون سياسية هذا الرأي يتم تداوله همساً بين عدد من الدول الداخلة في الحلف الذي تم إنشاؤه عام 1949، وربما انتقلت هذه الدول بعد زمن قصير إلى دائرة الجهر برأيها، وهذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحلف يعاني أعراض شيخوخة لم يعد أمر إخفائها ممكناً، وقد يضطر لإجراء عدة مداخلات جراحية في محاولة منه لإعادة رونق الشباب إلى وجهه، لكن الرهان على إعادة مثل هذا الرونق يبقى رهاناً محفوفاً بمخاطر الفشل الذريع، ما في ذلك أدنى ريب. أما سبب تداول هذا الرأي فترد إلى أسباب عدة، يأتي في مقدمتها عجز الحلف عن تجديد عقيدته العسكرية، يليها فقدان مسوغ استمرار وجوده، وأخيراً فقدان الثقة في قدراته العسكرية بعد إخفاقه في الحصول على علامة النجاح في أكثر من امتحان خاضه. وعلى الضفة الأخرى يقف فريق يرى أن الحلف مازال قادراً على ضخ الدماء الجديدة في عروقه، وأن البحث في موضوع تطوير يندرج ضمن إطار عملية دورية دأب على القيام بها منذ تأسيسه قبل أكثر من ستين عاماً. ولئن كانت الولايات المتحدة الأميركية في فترة الحرب الباردة هي التي قامت بدور الطاهي الرئيسي الذي يتحكم بمقدار الملح والتوابل التي يحتاج إليها الحلف ليبقى متمتعاً بنكهته المميزة، فإن المرحلة الجديدة التي انتقل إليها الحلف دفعت (واشنطن) للتنازل جزئياً عن ذلك الدور والاكتفاء بدور المعلم الذي يبدي الملاحظات عن قرب ويترك للطهاة الأوروبيين حرية محدودة في تعديل مذاق الطعام الذي يقدمه الحلف. انطلاقاً من هذه النقطة يمكن فهم مايمكن تسميته محاولات قائمة على قدم وساق لإدخال تعديل جوهري على بنية الحلف، ولعل العنصر الأهم في هذا التعديل يكمن في تحديد شكل العلاقات الأميركية- الأوروبية على الصعيد الأمني، ولاسيما بعد عودة فرنسا إلى حضن الحلف عودة سياسية وعسكرية في آن معاً، وازدياد سماء العلاقات الأميركية- الروسية تلبداً بغيوم التوتر وفقدان الثقة، ولا أدل على وجود هذه الغيوم من عودة استيقاظ النزعة العسكرية في روسيا من جديد، وانطلاق (موسكو) بخطوات حثيثة لإعادة الدول التي كانت تدور في الفلك السوفييتي إلى الفلك الروسي، ناهيك عن تذكير (موسكو) الناسين بأن ذراعها العسكرية لاتزال طويلة، وما جرى من تأديب (جورجيا) يعطي الآخرين درساً قاسياً في أن الأمن القومي الروسي خط أحمر لايمكن الاقتراب منه. انطلاقاً من الحرص الأميركي على تجديد (الناتو) شكلاً ومضموناً فقد أقامت جامعة الدفاع الوطني الأميركي حلقة بحث حول استراتيجية حلف الناتو، وكان اللافت للنظر أن وزير الدفاع الأميركي (روبرت غيتس) برغم مشاغله الكثيرة- قد اهتم بحضور هذه الحلقة، والمشاركة فيها، حيث قام بإلقاء محاضرة، صب فيها جل اهتمامه بموضوع استبدال المفهوم الاستراتيجي الخاص بالحلف بمفهوم استراتيجي جديد، يتطابق وينسجم مع الطموحات الأميركية إزاء مستقبل وضع (الناتو). أما أبرز النقاط التي أشار إليها (غيتس) فتتمثل في الآتي: -مذهبية وجود قوات الحلف الحالية في المسرح الأفغاني تتطابق وتنسجم مع مذهبية حلف الناتو خلال الأعوام السابقة والمطلوب تعديل وتجديد هذه المذهبية، وفقاً للاستراتيجية الجديدة، بما يتماشى مع التصور الأميركي لمستقبل دور قوات حلف الناتو في المسرح الأفغاني، وفي المسارح الأخرى المحتملة. تقوم مذهبية حلف الناتو على استراتيجية الحلف التي تؤكد على: مبدأ سلامة وحدة أراضي الدول الأعضاء- حماية الاستقلال السياسي للدول الأعضاء- حماية أمن الدول الأعضاء. مر أكثر من عشر سنوات على المفهوم الاستراتيجي الذي ظل يعتمده الحلف، وهذا المفهوم لم يعد مرشحاً للاستمرار وبالتالي لابد من وضع واعتماد مفهوم استراتيجي جديد، يعزز قدرة وفعالية الحلف في مقابلة التطورات الجديدة، وتحدياتها الأمنية. كل ما أرادت (واشنطن) قوله من وراء عرض رأيها في طريقة تطوير عمل الحلف هو أن لها رأياً خاصاً في الفقرة الخامسة من ميثاق الحلف، هذه الفقرة التي تقول: إن الاعتداء على أي دولة عضو في الحلف هو اعتداء على كل الدول الأخرى الأعضاء في الحلف، وهذا معناه، أن الدول التي تكون ملتزمة بتقديم الدعم العسكري لأي دولة لاتستطيع تقديم الدعم لتلك الدولة إلا إذا تعرضت للاعتداء. باختصار تلمح (واشنطن) لإدخال مفهوم الحرب على الإرهاب ضمن منظومة عمل (الناتو) وستنتقل قريباً من التلميح إلى التصريح بوجوب إدخال مفهوم الضربة الاستباقية ضمن مذهبية حلف الحلف، وقد يكون هذا الإدخال عسيراً، لكن (واشنطن) تملك من وسائل الإقناع ترهيباً وترغيباً مايسهل مهمة نجاحها في إقناع الدول الأوروبية بتبني هذا المفهوم. وهذا يعني أن الطاهي الأميركي سيظل مصراً على تقديم مذاق الناتو بالطعم الأميركي الخالص، لكن بأصابع أوروبية، الأمر الذي لاترضى به أوروبا التي ستفطن إليه عاجلاً أم آجلاً، وهو مايعني ظهور فوضى جديدة داخل بيت الحلف، وسيحتاج ترتيبه مرة أخرى إلى زمن لن يكون قصيراً بحال من الأحوال. |
|