تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عجــز ثقافـة أم مثقفيـن..؟

ثقافة
الاثنين 5-10-2015
ديب علي حسن

يروي احد المؤرخين ان امارة قديمة ظلت لسنوات طويلة تعمل على بناء سور حول تخومها، يمنع قدوم الاعداء ويحصنها من أي غزو، وبعد ايام من انجاز السور، لم يجد الغزاة كبير عناء لدخول الامارة، لانهم دخلوها من الباب الرئيس،

اذ فتح لهم على مصراعيه، ويعلق قائلا: لقد قضوا عقودا من الزمن يبنون سورا من حجارة، ولكنهم نسوا ان يبنوا الحارس الذي فتح الباب امام الغزاة، نسوا ان يبنوا الانسان ويرفعوا اسواره، فكان ما كان.‏‏‏‏‏

‏‏‏‏

تأسيسا على هذه الواقعة التي تنطبق على سور الصين العظيم اذ بقي الصينيون القدماء مئة عام يبنونه، لكنهم بعد ايام تعرضوا لغزو همجي ومن بواباته، فكان ان اعادوا بناء وتأهيل من بنى السور، ثقفوا الانسان، واعادوا صقله لتزداد قيمه وحبه لارضه ووطنه، واليوم في ظل التقنيات واحدث اسلحة الفتك والدمار المنجزة غربيا، ولاسيما في الولايات المتحدة، لم يعد أي قيمة تذكر لاي قوة باطشة تواجه الغزو العسكري، الا قيمة واحدة، وسلاح واحد هو الوعي والمعرفة، والثقافة التي تعتبر الحصن الاول والاخير، وخط دفاع اذا ما تحطم فلا قيمة لأي مواجهة ابدا، ولابد من اعادة البناء من جديد لهذا الخط الذي تدمر.‏‏‏‏‏

في القرن الحادي والعشرين، الذي يرى احد اهم المشتغلين بعلم الاجتماع (الان تورين) انه أي القرن الحادي والعشرين هو قرن الثقافة، فقد اخذ هذا المفهوم عودة غير مسبوقة الى الساحة الفكرية المعاصرة لدرجة انه اخذ يحتل مكانة مركزية تذكرنا بالمكانة الفائقة التي احتلها مفهوم الاقتصاد في دراسة العولمة ونشوء النظام العالمي الجديد في تسعينيات القرن المنصرم، وحسب ما قاله الدكتور رشيد الحاج صالح في عالم الفكر الكويتية العدد الاخير وتحت عنوان: العودة من المجتمع الى الفرد، المقولات الثقافية لفهم عالم ما بعد الحداثة عند الان تورين، وطبعا استشهادا به، أي لتورين: يضيف صالح قائلا: ونقلا عن تورين: ان اصحاب النقد الثقافي يعزون هذه العودة الى التفكير مابعد الحداثي في مشكلات العالم والحضارات المعاصرة تبين ان اصل تلك المشكلات يعود الى الاختلافات الثقافية بين الجماعات الامر الذي ادى الى ظهور كثير من الصراعات الثقافية، كما تبين لهم ان المقولات الاقتصادية كثيرا ما فشلت في تفسير المشكلات المعاصرة وفهمها لان الانسان كما اتضح لهم كائن ثقافي بالدرجة الاولى، وليس كائنا اقتصاديا، وان الحقوق الثقافية اهم بكثير من الحقوق الاقتصادية.‏‏‏‏‏

عودة مضللة‏‏‏‏‏

‏‏‏‏

يبدو ان مفهوم الثقافة والمثقف الذي استهلك من النقاش عبر التاريخ منذ ان كان مالم يستهلكه أي مفهوم اخر، يعود بقوة ليجدد ادواته ويشحذ معانيه من جديد، وليكون بالوقت نفسه وبشكل غير مباشر اداة من ادوات السطو والهيمنة وتفكيك الامم والدول واعادتها الى الفردية التي لايمكن ضبطها او السيطرة عليها، حتى غيزة القطيع قد تكون صعبة فيها، وهذا على ما يبدو عمل عليه آلان تورين صاحب كتاب: براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، اذ يقول تورين: لم يكتف تيار النقد الثقافي الجديد بطرد المقولات الاقتصادية بوصفها مقولات غير قادرة على تفسير مشكلات عالم ما بعد الحداثة، بل طرد المجتمع لمصلحة الفرد، فقد تبين لاعلام هذا التيار ان النزعة الاجتماعية المفرطة او التحليل الاجتماعي الذي يعطي الاولوية للمجتمع او مؤسساته جعل من الفرد كائنا تابعا للمجتمع ومعاييره، ومدافعا عن الامة او القومية او الهوية، قد تسبب بنسيان الفرد وتشيئه، بل وتحوله الى مجرد سلعة تباع وتشترى في عصر العولمة المتوحشة، وعلى هذا الاساس فإن التحليل الثقافي يسعى الى اعادة الفردية على حساب الانتماءات القومية والدينية والاختلاف على حساب الاندماج، والمثقف الفاعل على حساب المثقف الادائي، وكذلك عودة التواصل الثقافي على حساب صراعات الثقافات، والاعتراف بالاختلاف على حساب المساواة، وهذا يتطلب اصلاح الحداثة والعلوم الاجتماعية والمؤسسات التعليمية واستبدال المقولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بمقولات ثقافية وصوغ تصورات هي الاقدر على فهم وتفسير ما يحدث اليوم في العالم المعاصر.‏‏‏‏‏

وخلاصة تورين المشبوهة، العالم المعاصر اخذ يضيق ذرعا بالاختلافات الثقافية وان الفرد وجد نفسه بعد اكثر من قرنين من الحداثة مغتربا داخل مجتمعه ومهيمنا عليه من قبل الاحزاب والامم والقوميات والهويات والاديان وكل المؤسسات الاجتماعية فضلا عن المصالح الاقتصادية العابرة للقارات، ولم يحقق الفرد فرديته، والخلاصة: ان الثقافة هي التي تصوغ وعينا بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وانها تلعب دورا مهما في التطورات الاجتماعية والسياسية وكذلك في تطوير وتنمية هوية الفرد.‏‏‏‏‏

التيه..!‏‏‏‏‏

ماذا لو ان تورين قام بدراسة حال المجتمع العربي وحال ثقافاته ومثقفيه؟ الم يكن اراح نفسه من عناء الدعوة الى الفردية ولربما غير اراءه كلها، امام ما كان سيجده من عالم الفردية والفرد في مجتمعاتنا والى اين ستقود، وربما لم يكن ليجرؤ على طرح مفهوم المثقف الادائي، مقابل المثقف الفاعل، او العضوي كما طرحه غرامشي، فالواقع غير التنظير الفكري والمعرفي، وعلم الاجتماع الذي يدرس في الغرب الوقائع ويحلل ويستشرف سيبدو عاجزا امام مجتمعاتنا، لان الفردية الصارخة تتجلى فينا بأشنع وابشع صورها، لا، بل تصل الى حد الفصام، ولايمكن الخجل من القول: ان أي فرد فينا هو مجموعة افراد متناقضين تماما، لاهوية معروفة تارة هو في المدرسة وتارة اخرى في المسجد او السوق، وفي كل مكان يحمل تناقضاته النافرة المنفرة، لا الجدلية العملية، ويتجلى ذلك عدوانا ورفضا للاخر، لاسلوكاً معرفياً ولا تنويرياً، حتى لتخال اننا في غابة وحوش لا قرار لها.‏‏‏‏‏

اخفقت ثقافتنا ومناهجنا التربوية والتعليمية، وحتى ابداعنا ومفكرينا و تاهوا في سراديب ما ينتجه الغرب، فالكثيرون منهم مجرد رجع صدى، لاصوت ولاهمس، فقط ببغاوات تردد ما يملى عليها، فكان الاخفاق على الصعيدين، صعيد المثقف العضوي الفاعل، المؤثر (يفترض هكذا) والمثقف الادائي، الذي يعني صاحب التخصص الدقيق والعالي باي نوع من المعارف، لكنه غير فاعل في مجتمعه، من حيث الرأي والقيادة، هذا المشهد المأساوي نراه في الجامعات التي كانت منابر فكرية.‏‏‏‏‏

اذ كان بإمكانك قبل عقود من الزمن ان تعدد عشرات الاسماء لاساتذة جامعيين هم اعلام في الرأي والفكر، سواء كانوا مختصين بالعلوم النظرية ام التطبيقية، الان هل انت قادر على ان تشير الى ثلاثة اسماء لاساتذة جامعيين ينتجون فكرا ومعرفة، ولهم تأثيرهم الفكري في المجتمع؟‏‏‏‏‏

والسؤال المر: ما فائدة طبيب عالي التخصص يجري عملا جراحيا ناجحا لقلب، ومن ثم ينخرط وراء الفكر الارهابي ويقوده العرعور ليقتل آلاف الارواح ويملأ قلوبا اخرى بالحقد والموت؟‏‏‏‏‏

وما فائدة استاذ جامعي سوربوني يعيش الطائفية المقيتة، وعالم اخر يكتشف فجأة هويته الطائفية ؟ ما نفع هذا الركام من الشهادات الجامعية العليا، آلاف شهادات الماجستير والدكتوراه من كلياتنا ولكلياتنا لم تحسن ان تغير من واقعنا شيئا، لابل ان بعض اصحابها كانوا اكثر جهلا من رعاة في البادية.‏‏‏‏‏

هل من طالب جامعي الان يعنى بالفكر والندوات، وقد تحولت جامعتنا الى مدارس خاصة، ساد الاني الزائف محل الحقيقي، الصورة الزائفة هي التي توجه وتحدد، وعقم حقيقي في تربيتنا ومناهجنا، ادى الى الجمود والانحطاط الذي نعيشه، والحرب العدوانية على سورية وجدت منافذها من بواباتنا و اسوارنا على الرغم من علوها تحتاج الى المزيد لاننا امام عدو يعرف كيف تقتحم المنافذ والابواب، ويخطط لكسر جدران الصد وقد نجح في الكثير مما خطط له، ونحن مازلنا نتغنى بالحجر، نتغنى ببناء الانسان ولا نفعل شيئا، انه عجز مزدوج عجز مثقفين وثقافة، عجز في البنية التي يجب ان تدرس جيدا وتوضع ملامح جديدة تؤصل الحقيقي وتطرد الزائف.‏‏‏‏‏

d.hasan09@gmail.com‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية