|
ملحق ثقافي الذي يشي سيمولوجياً بالتدرج اللوني وبالتعدد والتمايز حتى في اللون الواحد وهو ما تؤكد عليه مدرسة الرموز والصيغ الفرنسية « الغشتالت «.. وإذا كانت اللغة قد وجدت جمالها في الشعر لأنها من خلاله تتفرغ لتبرز سحرها وتكشف عن زينتها كما يعبر غاستون باشلار فإن قصائد البياض البعيد خلعت عنها كل بياض إلا أبعده لتوغل عبره إلى المابعد الكامن في مخلفات فعل الموت وفي طعمه ولونه الذي يصبغ صورة الحياة بالفقد بعد أن يقطف منها وجه مَنْ تحب ويتوارى به في الغياب الذي يفاجئ البياض البعيد قصيدته به كاشفاً لها عن مخبوئه غير المتوقع فتنقل هي ما بدا منه قائلة:
وأنا أراه على المفارق واقفاً كالوقت منتحلاً بياض مسافة سوداء.. ص36 من خلال ذلك يسعى عصام خليل إلى إيقاظ المعنى في تراكيب تتسم بالتضاد على نحو متعمد متوسلاً منها بلوغ الباطن واللا مرئي على قدر يتوازى مع عمق الفقد الذي لا يعول على العين في بلوغه واستيعاب آثاره قدر مراهنته على البصيرة والرؤية المتقدة بآفاقها المعرفية التي تمتلك المقدرة في فك رموز البياض البعيد المنتحل بياض مسافة سوداء وليس بياض مسافة بيضاء.. وفي سياق المراهنة ذاتها على بصيرة الرؤية يقول عصام خليل في مفتتح قصائد مجموعته: صديقي الذي خبأته العصافير بين الأغاني لأنك أقرب من أي حزن إلى القلب أحتاج نصف سماء لأرسم وجهك تحتاج إغماضة كي تراني ويضيف: تمنيت لو كنت أغمضت قلبي لأبصر أقرب مما اشتهيت.. ص7ـ84 هكذا يبدو مخبوء « البياض البعيد « خدّاعاً ومخادعاً في آن.. كما أنه عصي المنال على المحاولة الأولى وصعب الإحاطة على النظرة الأولى باعتباره متداخلاً ومندغماً بنقيضه؛ فعلى الرغم أنه أقرب الأحزان إلى القلب, يحتاج رسم وجهه لنصف سماء ورغم أن هذا الرسم له سيكون كبيراً بمساحة نصف سماء سيحتاج إلى إغماض العين الكليلة واستيقاظ العين الأخرى الكامنة في البصيرة الرائية المخولة في استدراك مرامي القصيدة واستقراء مكنون ما بقي عالقاً في طيات البياض البعيد وفي أبعاده الدلالية التي قدمها عصام خليل في نص شعري اعتمد فيه على الشكل العمودي وعلى قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر مكوناً منها شخصية قصيدته الطافحة حتى آخرها بتراكيب الفقد ومفردات اللوعة ولا تخلو مساحة منها من ذكر الموت حتى في تحيتها لخبز الحياة حملت معها أكثر من موت وهي تردد: السلام على حنطة أنجبتها القصيدة سبع سنابل, في كل سنبلة ألف موت وجمر.. ص28 عبر هذا الركام من الموت يظهر مكنون ما توارى في البياض البعيد وحين يستكمل هيئة ظهوره لا يبدو غير جحيم مستعرة بفراق الأحبة الراحلين إلى أبديتهم فتغدو المكابدة برحيلهم حد الهذيان وحد إلغاء المسافة الفارقة بين الذات والموضوع وتحت وطأة ذوبان كل واحد منهما في الآخر تذهب الذات الشعرية إلى القول: يا موتي المصنوع مني كيف أقبر نصف ميت غائراً في نصف حي.. ما كنت أعلم أنني سأضيف مقبرة إلى قلبي… إن كل ما باحت به القصائد في خطابها للبياض البعيد عن مأساة الشاعر في فقده ابنه لم يمنع عصام خليل من القول إلى ابن قلبه في السطر الأخير من مجموعته:آسف يا بني/ إن شعري ضرير/ لم أستطع البكاء كما أشتهي.. وهو ما يمكن اعتباره بمثابة اعتراف ضمني بأن ألم الفقد بقي أكبر من مرثيته التي قدمها للبياض البعيد والتي جاءت بجملة شعرية متنوعة في بنائها الفني العمودي والتفعيلي والنثري ومتباينة في توهجها الشعري الذي تدرج في مستوياته حتى بلغ حدود النثرية السردية. |
|