تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رجل في متاهة

ملحق ثقافي
2/ 3 / 2010
قصة:علي خيون/العراق: وجد نفسه في متاهة، بذل مجهوداً مضاعفاً للخلاص منها من دون جدوى،إرتد قلمه خائبا بعد لأي، لماذا يضعون متاهات قديمة في صحف حديثة،المحاولة فشلت وهاهي الخيبات تملأ جوانحه..العبرة بالصلابة،

ضحك من أعماقه للعبارة المشاغبة ،وايقن أنها خيبات لاتنتهي،بعضها مرت وتركت آثاراً لاتمحى، واخرى على الطريق..طاف في ذهنه صديقه الاثيرالذي كان يعبر عن خيباته بضحكة من الاعماق،لكن تلك السخرية المرة،سعت به الى طرق ملتوية،صارت مصدر قلق لصديق العمر، فقال له هامساً في حزن عميق وهو يتأمل المتاهة:‏

لم يعد يستيقظ.. كأن الخوف قتل أحاسيسي كلها!‏

ضحك من الاعماق، فهم صاحبه المعنى، قال بخبث:‏

اتبع خطواتي..كن رجلاً واتبع خطواتي!‏

غمغم بكلمات غير مفهومة،تابع باستغراب خطه الضائع وسط المتاهة،ونهض ليختفي كشمس تستعجل المغيب، فقال صاحبه وهو يرفس الارض ضحكاً:‏

ستظنك هذه المرة مغرماً بسواها، قل لها كنت مع صديقي وينتهي الامر كله!‏

وأضاف:‏

لاتفهمني خطأ..اريد ان اساعدك في تذوق طعم الحرية..‏

الحرية ؟‏

مضى بجسد مرهق ,ينوء بأمراض مزمنة لئيمة ,الضغط والسكري واضيف إليها مؤخراً زيادة في نسبة الكريات البيض،وزيادة في نسبة الحوامض تهدده بالنقرس قال مستغربا ونظاراته تكاد تغادر انفه في لحظة نزق:‏

- كيف زحفت الى ارذل العمر؟‏

فقال صاحبه محتجا بجد، من دون ضحك هذه المرة:‏

- مازلت شابا لكن عمرك مرهون بالحذر ,محذور عليك التمتع باشياء كثيرة في الحياة!‏

- محذور ومحظور مااشد كرهي لهذه المفردات ،عن أي شباب تتحدث اذن؟‏

- شباب الروح، وسامتك لن تخطئها عين صبية جريئة!‏

ضحك هذه المرة بصدق , قال وهو ينظر الى السماء :‏

- هداياك مقبولة كلها !‏

نقل الآخر بصره بين وجه الرجل وكرشه وقال كمن يتأمل بضاعة غامضة السعر:‏

- يبدوأن زمانك قد ولى..لكن لكل داء دواء..ما عليك إلا ان تتبع خطواتي !‏

ترك الجريدة جانبا، هذه اللعبة لم تعد تليق بعمره،الكلمات المتقاطعة مناسبة،سيبحث عن مقلوب الكلمات ومقلوب مايرى في ايامه المرهقة، اما المتاهة فلقد أشعرته بالعجز التام، والصبايا؟ يا خالق الليل والنهار، يا فالق الحب والنوى ،اطفئ أشواق روحي برمل ندي،او عد بي صخرة صماء تتلقى الامواج العابثة بالقسوة والجفاء،،إنهن في ازيائهن الضيقة مثل حلم غامض، رآه في ليال كثيرة، لكنه يجهل تفسيره، يشعر بقربهن بالامان كما لو ألقى بجسده الواهن على شاطئ رملي ندي،جمال غامض وصورة للحرمان منذ أن خلق أول انسان حركت أعماقه أشواق مبهمة،هو محروم ايضا،ليس له في محيط مثل محيطه ان يتحدث مع امرأة بانطلاق يتمناه،لكن له الحديث مع من يشاء من بني جنسه حتى لو كان الشيطان نفسه.‏

عيناه تلمحان جارته، لكن والدته رحمها الله كانت له بالمرصاد مافتئ يتذكر يوم خرج سرا مع جارته مساء لم يفعل شيئا كانت حوارات ساذجة مرتبكة كان مضطربا وكانت خائفة وحين ودعته اجتاحه فراغ كبير وحزن عميق لم يفهم له مغزى فانضم برفق وصمت الى عشاق مرهقين ينصتون الى ام كلثوم، ضاقت في عينيه الدنيا بما رحبت حين لم تتح له الفرصة لرؤية فتاته فعاد الى احضان امه يلتمس الراحة فوجئ بالنظرات المتفحصة الخبيرة تراقب صمته مثل استاذ اخفق تلميذه في اداء الوجب، الخوف يشل داخله سألته:‏

- مابك؟‏

- لاشئ!‏

لابد ان يعترف، اجتاح القلق كيانه كله مثل ادم ساعة فعل فعلته الغريبة في جنة لاتعرف سوى الاستقامة قال في نفسه لأقل بعض كلمات صادقة لعل امي تغفر لي خطيئتي فالنجاة في الصدق:‏

- كنت مع جارتي كان لقاءً بريئا لكنها لم تخرج اليوم..‏

صرخت بصوت مخنوق: مع من؟ قلت مع من؟‏

انهار تصميمه لم يبق له الا الاعتراف:‏

- جارتنا!‏

انتظر النتيجه بفارغ الصبر.. عادت بانتصار ساحق ألقت عباءتها جانبا ووصفت له تفاصيل المعركة الظافرة:‏

- حذرتها وحذرت أهلها علناً من الاقتراب منك!‏

قال بنفاق صغير:‏

- احسنت يا امي..‏

دنت منه قبلته وقالت بحنان:‏

هل أنت راض عني؟‏

قال كاذبا:‏

- كامل الرضا ولكن لم فعلت ذلك؟أعني لم اجهدت نفسك؟‏

- لانني اخاف عليك ياولدي انت وحيدي ام انك نسيت؟ وانت ياكبدي غير قادر على كيد النساء!‏

صار عمره ثلاثين عاما لكنه لم ينس تلك الصبية التي لايعرف لها طريقا كبرت في ذهنه وصارت امراة ناضجة رآها ذات ليلة في حلم واضح غير مشوش ولم يصدق انها صارت مليحة فارعة الطول، بيد ان امه التي تقرأ افكاره، سارعت الى اختيارزوجة له على وفق هواها،لايعرف كيف اقنعتها واين عرفتها، لكنها بعد الزواج بايام قليلة كرهت الفتاة كما كرهت الفتاة الاولى قالت له:‏

- لاتدع زوجتك تسيطر عليك!‏

لها طباعك ذاتها ياامي؟‏

- انا امك وتلك امرأتك يا أغبر!‏

بعد ثلاثين عاما قالت له جارته الاولى حين التقاها مصادفة:‏

- كنت احبك ولم اكن ذات كيد او دهاء هل يؤذي الانسان من يحبه؟‏

- أعرف ذلك..‏

- حسنا لنجلس قليلا فلدي مشكلة وها نحن قد كبرنا واكتسبنا خبرة من حياتنا السابقة وصار الرأس مثقلا بهموم تهد الجبال!‏

- لامانع ولكنني لااستطيع التأخر كثيرا..‏

فسألته باستغراب شديد:‏

- تبدو مستقيما مثل خط يوصل بين نقطتين ثابتتين!‏

- طبعا صدقي ذلك صارت لدي عائلة كبيرة صرت مسوؤلا.. انني شريف ومستقيم وزوجتي امراة غيور!‏

عاد حزينا،فوجد زوجته تنقل النظرات الغاضبة بين عقارب ساعة الحائط وبين وجهه،تأخر عن موعده المعتاد،وسألته بعد ان طال صمته:‏

- أين كنت؟‏

- مع صديقي..إني ازحف فوق الستين وليس منطقيا ان اكذب..‏

قالت:‏

- لابأس عليك إن كنت مع صديق!‏

عادت صورة امه _رحمها الله _ ثلاثين سنة الى الوراء،بعثت شابة قادرة على الحساب والعقاب والثواب،يامحيي العظام وهي رميم.. تأكد على نحو ما يوحي خيالها الخصب،أنه جاء بذنب،سحبته نحوها في الفراش من باب التاكد،بدا مثل خشبة،رفعت رأسها كأفعى يقظة وسألته بحذر:‏

ماذا أراد صديقك؟‏

- طلب أن أحل له متاهة فاخفق قلمي!‏

- قل الحق..إني اشم رائحة امرأة؟‏

قال باستسلام لص ألقت عليه القبض شرطة مقتدرة:‏

- الحق انني كنت مع احدى زميلاتي احل لها مشكلة صعبة!‏

صرخت بجنون:‏

- مع من؟ قلت مع من؟‏

في مساء اليوم التالي، قال لصديقه بشرود كامل:‏

لم يستيقظ..أظنه في غيبوبة آخر العمر!‏

استغرب ان صديقه لم يضحك هذه المرة فسحبه من ذراعه بقوة وقال بحزم:‏

- كن رجلا واتبع خطواتي..‏

- الى أين أيها الصديق اللدود؟‏

- تعال معي..‏

فتبعه باستسلام وصمت مريب.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية