تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جديد الرواية أم جودتها؟

ملحق ثقافي
2/ 3 / 2010
د.جهاد عطا نعيسة: أن نكتب الحياة المتجددة دائماً، فنحن نكتب الرواية الجديدة. لكن كيف...؟

يتأسس الجديد على التجاوز الجدلي للماضي؛ أي استيعابه ثم بناء المركَّب البديل، الذي ليس الماضي ولا نقضه، بل هو حصيلة التفاعل الخصيب بينهما؛ وحدتهما “الهيغلية” synthesis التي تحافظ على جوهر عنصريها المتنازعين في الوقت الذي تحطمهما فيه بوصفهما كيانين منفصلين؛ ذلك أن النقض المطلق للماضي يمضي بنا إلى انزلاقات معرفية وإنسانية ووطنية خطيرة، تجعل منه ثورةً شكلية تماماً، تنطلق من ثباتٍ يتوهم الحركة، فهو ليس سوى تجلٍّ آيديولوجي لعدمية تحيل الزمن عاملاً قيمياً مطلقاً ذا اتجاه واحد، فتنفي نفسها فيما هي تنفي الماضي؛ ذلك أنها ستغدو هي نفسها ماضياً، عدمية تلغي معنى التاريخ الإنساني من حيث هو اتصال وتواصل وتكامل خبرات ومعارف، فتحيل حراكه الدائم جحوداً مستمراً وقفزات بهلوانية فوق هوّات مظلمة من جثث الماضي، الماضي المرفوض لا لشيء إلا لأنه ماضٍ...!‏

لقد وسمتْ هذه النزعة “النهلستية” «العدمية» ما عُرِفَ بمرحلة الغليان الحداثي في الغرب، في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين؛ تلك التي نشأت ونشطت، وسط وبتأثير المناخ السائد قبيل وخلال وبُعيد الحرب العالمية الأولى؛ المناخ الذي اهتزَّ فيه كثير من القيم والمسلّمات، فيما كان يهتزّ استقرار العالم كله في حمّى جنون تلك الحرب الشامل.‏

حركات فنية وأدبية عديدة، كان طابعها العام، على الرغم من اختلافاتها، هو التجريد وتحطيم أسس الواقعية والرومانسية السائدتين. ولعلَّ التعبير الأكثر مغالاةً لها هو “الدادائية” Dadaism, التي بدأت في “زوريخ” عام 1916م، و خاضت حربها الضروس ضدّ القوانين والمُثُل والتقاليد تحت شعار “لا شيء”، قبل أن تنجز تحوّلها إلى السريالية عام 1921م، فتطلق شعاراً شبيهاً هو: تحرير الذاكرة من العقل والمنطق.‏

كذلك كان شأن المستقبلية Futurism في تطرّفها؛ تلك الحركة التي قادتها مجموعة شعراء روس دعت إلى تدمير كل التقاليد الشعرية السابقة، والتي لفتَ المفكر والثوري الروسي الشهير “ليون تروتسكي” «1879ـ 1940»م، النظر إلى مغالاتها قائلاً: “في الرفض المستقبلي المشتط للماضي لا تختبئ وجهة نظر ثورية بروليتارية، بل عدمية البوهيميا. إننا نحن الماركسيين نعيش مع تراث وتقاليد، ولا نكفّ بسبب ذلك عن أن نكون ثوريين”.‏

وإنه لَموقفٌ ذو دلالة، أن يصف “ألان روب غرييه” أحد أبرز أقطاب ما عُرِفَ بـ “الرواية الفرنسية الجديدة” التي تُعَدّ من أهمّ تجلّيات “ما بعد الحداثة” في الحقل الروائي، في العام 1988م، نصوصَ كتابَه “نحو رواية جديدة” «1955ـ1963»م، الذي عَرّفَ به في العالم أجمع، بالنصوص المقاتلة والإرهابية والتبسيطية. إنها المسافة التي يقطعها الفكر المبدع، حين يراجع في مرحلة النضج العمري والإبداعي جموحَ شبابه.‏

يترابط القول بجدل الجديد القولُ بعدم الخضوع أو الارتهان لمفردات جديدٍ بعينه وقضاياه، استجابة لنفوذ مصدره أو قوة تأثيره، من طراز الارتهان لمفردات “الرواية الفرنسية الجديدة”، أو “الرواية الإسبانو أمريكية الجديدة”، أو سواهما. فالبحث عن الجديد ينتهك معناه وقيمته حين يغدو استنساخاً، أو استخزاءً أمام نمط مهيمن منه. على الرغم من أهمية الحوار مع المنتَج الجيّد في كلّ حقل بغضّ النظر عن مصدره.‏

حين نكفُّ عن تطويب براءات الاختراع لهذه التجربة الجديدة أو تلك والتبرّك بمنجزاتها، لن نجد أنفسنا في موقعٍ متطرف أو مبالغ به ونحن ننوه بكل إبداع حقيقي بوصفه جديداً؛ ذلك أن كل إبداع أصيل يتميز ـ بوصفه إبداعاً ـ بالابتكار على مستوى الشكل والمضمون، فهل يكون التجديد شيئاً آخر سوى هذا الابتكار؟‏

“novel”: جَديد. ذلك هو المعنى الأول للكلمة في اللغة الإنكليزية. وباصطلاح هذه المفردة على السرد النثري الواقعي الطويل، الذي عُرِفَ في بريطانيا منذ النصف الأول للقرن الثامن عشر، مع التحوّل الرأسمالي وأولوياته الواقعية والإنسانية والتجريبية، ما يؤكد صلة الفن الروائي منذ نشوئه بالجدة والتجديد.‏

“الرواية كانت دائماً جديدة منذ أن وُجِدَت، فكيف كان يمكنها أن تظل ساكنة في حين أن كل شيء يتطور من حولها وبسرعة شديدة طيلة المئة والخمسين عاماً الماضية؟ لقد كان فلوبير يكتب الرواية الجديدة سنة 1860 وبروست سنة 1910”.‏

أن يكتب “غرييه” الشاب هذا الكلام، فيما كان يقاتل لتوكيد جديده الروائي: “الممحايات” «1953»م، و”المتلصص” «1955»م، “الغيرة” «1957»م، و” في التيه” «1959»م، أو أن يؤكّد في الموقع نفسه الدورَ المهم للعمل الصبور والبناء المنهجي والمعمار المتأمل طويلاً لكل جملة بوصفها جزءاً من المجموع العام للرواية، فليس في الأمر أي قدْر من المفارقة؛ فـ “غرييه روائي كبير بقدر ما هو مجدد كبير؛ لأنه كرّس إبداعه بإخلاص ومهارة في آن معاً، كي ينهض بعبء الجوهري من أسئلة عصره وفنّه، في لحظةٍ بدا له كلٌّ منهما غارقاً في أزمته الخانقة.‏

إن الإبداع الروائي في خصوصية علاقته بالواقع والحياة والتجارب البشرية فيهما، وتميّزه في ذلك من الأجناس الأدبية الأخرى، لهو الجنس الأدبي الأكثر حراكاً؛ ذلك أنه في استجابته للحياة وتجاربها لا بدَّ أن يستجيب لحراك الحياة وتطورها، ومن ثَمَّ فإن وفاء الرواية لعلاقتها بالواقع وتعبيرها الأمين عن جملة قضاياه ومحرّضاته، يتيحان لها أفقاً أكثر رحابة في سبر جديد الحياة وتمثّله والتعبير عنه.‏

هكذا لا يكون التجديد في الفن الروائي صنيعاً مباركاً لهذا الكاتب أو ذاك، بل هو أولاً قدَر الرواية الخاص، بين الفنون الأدبية كافةً. هذا ما عبّر عنه “ميخائيل باختين” «1895ـ1975»م، بوضوح؛ إذ وصف الرواية بأنها المرونة ذاتها، فهي تقوم على البحث الدائم وعلى مراجعة أشكالها السابقة باستمرار. ولا بدّ لها من أن تكون كذلك لأنها تمدّ جذورها في الأرضية التي تتصل اتصالاً مباشراً بمواقع ولادة الواقع.‏

لكن التجديد شأن مغاير تماماً للمغالاة. هكذا نجدنا ننظر بعين الريبة إلى الانتهاكات البنيوية الكثيرة التي واجهها النص الروائي في مواقع مختلفة من العالم بدعوى التجديد.‏

فهل يكون إصدار روايات ذات صفحات ملوّنه بألوان متباينة، تبعاً للتقديرات الخاصة لعلاقة هذا اللون أو ذاك، بالمناخ النفسي المهيمن في لحظات معينة من السرد، أو روايات تتيح إعادة ترتيب أوراقها على النحو الذي يناسب فهم قارئها واجتهاده في ترتيبها «gimmick books» جديداً يستحق التقدير؟‏

أو هل يكون إهمال الشخصية أو الحدث أو الحبكة في السرد الروائي جديداً يستحق التقدير؟‏

وهل يكون اللعب والاشتقاق اللغوي في النص الروائي، الملحق بهوامش تجربة “جيمس جويس” في “يقظة فينيغان” «1939» م، أو تجربة “أنتوني بيرجس” في “البرتقالة الآلية” «1962»م، جديداً يستحق التقدير؟‏

وهل يكون انشغال النص الروائي بهاجس “أدب اللانوع” non genre literature وتفتيقاته “ما بعد الحداثية” المختلفة، في شرطٍ “ما قبل تاريخي” جديداً يستحق التقدير؟‏

وهل يكون جديداً يستحقّ التقدير اجترارُ تقنية “الميتا رواية” بمناسبة وبغير مناسبة، بعد شيوع احتفاء “ما بعد الحداثة” بها؟ هذه التقنية التي لاحظ كثيرون، في مقدمتهم الروائي والناقد الأمريكي “والتر ألان” أنها لم تقدّم ما هو جدير بالاهتمام حتى في تجاربها الأهم « “تريسترام شاندي” للورنس ستيرن.. “بيير” لهرمان ملفل.. “مزيفو النقود” لأندريه جيد»؟‏

وقبل هذا وذاك، هل يكون جديداً يستحق التقدير ذلك الإسرافُ السردي والوصفي في التفصيلات الجنسية، وبذل الوقت والجهد للتباهي به، بوصفه انتهاكاً لـ”المقدّس” و”المسكوت عنه و...و. إلى آخر هذه المصطلحات التي ابتذلها الادعاء المستمر في عشرات التصريحات والحوارات والمحاجّات؟‏

من جهة أخرى، فإن سياقين مختلفين للإبداع الروائي يترابطان بقوة بسياقين مختلفين تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً، يحيلان بالضرورة على سياقَي تجديد مختلفين. فالتدمير المجّاني لخصائص النص الروائي لن يكون في شرط تاريخي يتلمس ناسه أولويات وجودهم الوطني والإنساني سوى عبث أكثر مجانية. إن الشرط الغربي للتجديد الروائي هو شرط غير قابل للمماثلة عربياً، مهما اجتهد مؤدلجو “المثاقفة” في ذلك. ومن ثَمَّ فقد يكون على جديدنا الروائي أن يمعن في واقعيته لا في تغريبه، وهو يتلمس طريقه في شرطه الخاص.‏

عام 1848م، أكّد الروائي الإنكليزي والرائد الكبير للنقد الروائي “هنري جيمس” فيما يتصل بالفن الروائي، أن التمييز الوحيد الذي له معنى هو التمييز بين الروايات الرديئة والروايات الجيدة. وبعد ذلك بقرن من الزمن وضّح الناقد الفرنسي “ألبير ليونار” أن تقدّما واحداً يمكن إحرازه في الفن الروائي، هو أن يكون المرء قادراً على كتابة روايات جيدة.‏

هكذا يكون القول بكتابة الرواية الجديدة دون الآخرين، هروباً مقيتاً من الأسئلة الأكثر جدّية في الفن الروائي، ولغواً باطلاً؛ لأنه يهمل بدهيةً كبرى تسائل معيار الجودة في جدّة الجديد.‏

إن وحدة الجميل المركّب دائماً من الأبدي والوقتي، تلك التي كشفها الشاعر والجمالي الفرنسي “شارل بودلير” «1821ـ1867»م، في مقالته الشهيرة “رسّام الحياة العصرية” le peintre de la vie moderne «1864»م، والتي بقيت الناظم والملهم للمبحث الضخم للمفكّر الماركسي الفرنسي “هنري لوفيفر”: “مدخل إلى الحداثة” «1962»م، على نحوٍ يفوق إلهام مقولة “ماركس” نفسه، في فصام الحداثة، وحدةٌ صائبة في قضية الإبداع الإنساني في كل زمان ومكان.‏

أما اختزال الجديد الروائي بهذه القضية أو تلك، وبهذه التقنية أو تلك، فهو ليس سوى انتهاك لمعنى التجديد في هذا الجنس الإبداعي على نحوٍ خاص؛ الجنس الإبداعي العميق والفسيح والمتجدد، الذي يحيل دائماً على “الإنسان ومشاكله اليومية المتجددة، الإنسان الذي تحتفي به قبل سواها، رائدة “الرواية الفرنسية الجديدة”: “ناتالي ساروت”، وهي تُحَذِّر من مغبّة نسيانه بوصفه موضوعَ الرواية المركزي.‏

وفي النهاية، فالقضية لا تكمن في ثنائية الجديد والقديم، بل في ثنائية أخرى أكثر أهمية هي الجيّد والرديء، أو الرواية الحقيقية ووهم الرواية.‏

أولوية كتابة رواية حقيقية لا تلغي مساحة التجريب الدائم والمراجعة الدائمة لما أُنجِز في الحقل الروائي، بل تقتضيه وتؤكده. لكن من حق قانون الانتخاب في الإبداع كما في الحياة، أن يحتفظ للأجيال القادمة بما يستحق الاهتمام من هذا التجريب، وأن يمضي بما تبقّى منه إلى مكبّ نفايات الثقافة والتاريخ...؟‏

جديدٌ جيّد، حين ينهض بعبْ الأسئلة الوجيهة في الحياة والفن، وجديدٌ لا معنى له، حين يستعيض بها هامشاً عابراً لا يشغل سوى حفنة من المتحذلقين والباحثين عن الإغراب في كل ما يقولون ويفعلون.‏

كل جيّد هو جديد على نحوٍ ما، في فن الرواية الإنساني العظيم. لكن ليس كل جديد جيداً فيه.‏

هذا ما يملي علينا أن ننظر إلى جدّة أدائنا الروائي بعين، وإلى جودته بألف عين؛ كي لا يكون جديدنا صخباً دعيّاً يستعيد حجمَه الحقيقي بعد انجلاء الضجيج الذي وُلِد به وفيه ومعه، كما لاحظ الناقد الأرجنتيني “روبرتو خيوستي” منذ عقود، وهو يتأمل حصاد أدعياء التجديد في وطنه:‏

“هل باسم هذا أنكروا كلَّ ماضٍ... ما أشدَّ ادعاءهم...!”‏

وعلى الرغم من كل زوابع ادّعاء الجديد التي تهبّ هنا وهناك، فثمة دائما جديدٌ جيد كتبه، ويكتبه مبدعون روائيون، موهوبون ونزيهون بما فيه الكفاية، ليس أوله مصابيح “حنا مينة” الزرق «1954»م، وليس آخره “أولاد “سكيبة” «2009»م، لمنذر بدر حلّوم؛ أولئك الذين جار عليهم زمانهم، فما أحنوا له رأساً ولا صغّروا أمام بطشه قامة.‏

جديدٌ جيد كتبه ويكتبه مبدعون كثيرون، في وطننا وفي كل أوطان العالم، مبدعون نعرفهم ومبدعون نجهلهم، وآخرون لن يتاح لنا أن نتعرّف بهم يوماً، لأنهم آثروا أن يعيشوا بصمت ويبدعوا بصمت ويموتوا بصمت. أنبياء الكلمة والضمير في زمن انحطاط الأزمان، وجحوده المارق.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية