تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الرواية اللزجة ومآزق الكتابة

ملحق ثقافي
2/ 3 / 2010
د.صلاح صالح: يزدحم المشهد الثقافي العربي بنصوص طازجة يكاد عبير حبر المطابع أن يفوح من سطورها، ويثير مظهرها الطازج شهيّة المرء للقراءة لمجرّد أنها «طازجة» قبل أي اعتبار آخر.

وخرج القسط الأوفر من هذه النصوص تحت مسمّى «الرواية» وكان من الممكن أن تخرج تحت أيّ مسمّى آخر «أدبي أو غير أدبي»، وكان من الممكن أيضاً أن تخرج معرّاة من انتسابها إلى أي نوع أدبي لو لم يكن الشائع في حياتنا الثقافية الحديثة إخضاع النصّ للتجنيس المعرفي، وتشاء المرونة المميّزة للروايةً أن يُحشر في خانتها ما يتأبّى انحشاره في الأنواع الأخرى. ولا تقتصر المسألة على مشروعية انضواء النصوص في خانة الرواية، بل تتعدّى ذلك لتقبع أساساً في طبيعة النصّ المسمّى نصّاً روائيّاً، حين يستعصي ذلك النص على الفهم، أو حتى على القراءة، فكثيراً ما يزعم أصحاب النصوص الرديئة «المستعصية على القراءة» بأن نصوصهم تخاطب قرّاء في المستقبل، وأنهم يكتبون نصوصاً حديثة جدّاً، بدليل مخالفتها للقارّ في «أفق التوقّع» بحسب التعبير المستعمل في الدراسات النقدية المعاصرة.‏‏

‏‏

من الطبيعي ألاّ تُغلق أبواب الإنتاج الثقافي في وجه أحد، ومن علامات العافية الثقافية أن يكثر إنتاج النصوص بمختلف أجناسها وأنواعها، ومن علامات العافية أيضاً أن يتضاءل دور الرقابة بمستوييها الرسمي والاجتماعي، وأن تُمنح حرّية التعبير وممارسة الإنتاج لكل من شاء، عملاً بمضمون التعبير المستعار من الليبرالية الاقتصادية «دعه يعمل»، وعلى طريقة اللازمة المتكرّرة في الحكايات الشعبية المنسوجة حول «سعلاي الدين» أو «السيد علاء الدين» المتمثّلة في أن الطريق تسع الجميع، ولا يمكن أن تكون حكراً على أحد دون أحد.‏‏

غير أن هذا الركام من الإنتاج النصّي الذي حشره أصحابه، وبعض مروّجيه ضمن خانة ما يسمّونه بـ «الرواية الجديدة» يستدعي إثارة عدد من الأفكار التي تطمح إلى أن تكون دعوة للتأمّل وممارسة التفكير الهادئ والحوار، من غير أن تتنفّج لتدّعي «وضع الأمور في نصابها»، أو «وضع النقاط على الحروف» وما يقع في هذا المضمار من ادّعاءات القدرة على اجتراح القول الفصل. وسنكتفي برصد مظهرين لبعض المآزق التي تقع فيها هذه «الرواية الجديدة»:‏‏

البعثرة واعتماد الفوضى وتكسير نظام النص:‏‏

من أكثر التعاريف الموفّقة للشعر أنه نظام داخل نظام، بوصفه نظاماً ثانويّاً استعمل نظاماً أوّلياً موجوداً قبله هو اللغة. وما ينطبق على الشعر ينطبق على سواه من الأنواع الأدبية الأخرى التي تجعلها طبيعة انتظامها الداخلي تنتج عنصراً مهيمناً يفرض «أو يرجّح» انتماءها إلى هذا النوع الأدبي أو ذاك، وقد ذكر إيرفينغ بوخن أن "السبيل إلى فنّية الرواية يكمن في تنظيم غزارتها" وعلى ذلك، تنتفي أدبية الأدب، وتنتفي الصفة الروائية للرواية ما لم يخضع نصّها لنظام ما، من غير أن يكون نسخة عن نظام سابق. ومن غير أن يتعارض مع الفكرة الذاهبة إلى أن العمل الفني الفذ لا يشبه شيئاً سوى نفسه. ولذلك يسعى أي فنان، إلى أن يكسر رتابة النظم السابقة في سبيل منع عمله من السقوط في مستنقع التقليد والتكرار. ومعروف أن الشكلانيين الروس ذهبوا إلى أن القوالب الأدبية القديمة لا تُحطّم وتُستبدل لمجرّد أن الحياة قد تغيّرت فقط، بل تتحطّم القوالب القديمة أيضاً لأنها صارت بالية من كثرة الاستعمال.‏‏

لكن مشكلة نصوص كثيرة تطفو على سطح المشهد الثقافي تكمن في أن أصحابها لا يملكون من خبرة القراءة، وخبرة الكتابة إلا القدر الضئيل الذي يفضح جهلهم بمبادئ النحو والإملاء، وقدر موازٍ من الرغبة في أن يكونوا كتّاباً، على أساس «ألاّ أحد أحسن من أحد» والسوق مفتوحة لكل من باع واشترى، والنشر صار عملية في منتهى اليسر. ويكمن قدر من مشكلة تلك النصوص في أنها اكتفت بمجرّد تحطيم القوالب، وتهشيم النظام النصّي، وصولاً في بعض الأحيان إلى تكسير النظام اللغوي ذاته، بحجّة اجتراح الجديد. فهذه العشوائية الخارجة عن أي انتظام ليست أكثر من تجلٍّ لإفلاس إبداعي شامل، وعجزٍ عن جعل النص يصنع حكاية، ويعجز عن خلق عوالم موازية للعوالم الواقعية، ولا يكتفي بنقل تسجيلي بائس عنها. فالعوالم المتخلّقة روائيّاً يخضع تخليقها لنظام ما، لتستطيع الحياة عبر الورق، وممارسة الإقناع الفني، وجعل النص الذي يضمّها نصّاً قابلاً للقراءة في الحد الأدنى، على أساس التفريق الذي أشار إليه النقّاد بين نصّ أدبي ونص غير أدبي، وصولاً إلى التفريق بين نصّ قابل للقراءة ونص غير قابل للقراءة. وفي أية عمليّة تجديد، يمضي المجدّدون إلى كسر القوالب القديمة، ونفي النمذجة، وتغيير نظام التراتبيّة، أو نظام وضع الأشياء على الطاولة. إنهم ينشئون أنظمة بديلة، ويضعون الأشياء على الطاولة بطريقة مغايرة، لكنها يجب أن تكون خاضعة لنظام ما لتُسمّى طريقة، ويجب أن تكون جميلة ليكون وجودها الجديد عملاً فنّياً.‏‏

2– لزوجة المشاهد الجنسية:‏‏

استعملت في أحد كتبي تعبير «التحلية الجنسية» للإشارة إلى أن حشر المشاهد الجنسية في الأعمال الروائية التي تفشل في إنجاز الجاذبية السردية كفيل بإنجاز تلك الجاذبية التي يفتقر إليها معظم النصوص الواقعة في خانة «الرواية الجديدة» وبلغ سرد المشاهد الجنسية درجة قصوى من المباشرة والإسفاف في البذاءة إلى حدّ إثارة الاشمئزاز بدلاًً من إثارة الشهوة، بما في ذلك شهوة القراءة بوصفها الأساس في مختلف الأشكال الرامية لإنجاز الجاذبية السردية. ويُضاف إلى ذلك ما ترومه الكاتبات الإناث خصوصاً بشأن إثارة إعجاب القارئ بما يسمّينه شجاعتهنّ في كشف مخابئ الأنوثة، فيحدث في أحايين كثيرة أن يؤدّي بهنّ الإفلاس الإبداعي إلى مجرّد الاكتفاء بفلش أنوثتهنّ، أو مخابئهنّ الأنثوية إلى أقصى درجات الفلش. جاعلات من ذلك أعمالاً روائية «جديدة» تحظى بترحيب يفوق التوقّع، وخصوصاً لدى الأوساط التي تشكّل الآن أصداء معاصرة «غير بريئة» للنشاط الاستشراقي «غير البريء» الذي عرفته المنطقة خلال القرون الماضية. إذ تغفل هذه الأوساط مسائل عديدة خاصّة بظاهرة فلش الأنوثة، بوصفها ظاهرة منقطعة عن سياق التغيّر الاجتماعي الذي يؤطّر الظاهرة من غير أن يحتضنها، ومن غير أن يرحّب بها، إذا لم نقل إنه يدينها، ويسعى إلى عزلها ورميها في خانة الاستثناء. ويُضاف إلى ذلك وجود تلك المساحة المتنامية للادّعاء والافتراء على الواقع، وافتعال أشكال من المعاناة عاجزة عن الإقناع بمستوييه الواقعي والفني.‏‏

من الضروري لهذه المادّة تنقيتها من روائح التزمّت، والابتعاد بمقاصدها عن الوعظ والمرامي الأخلاقية للكتابة، فالأساس في هذا الشأن أن يتّخذ السرد، بما في ذلك سرد القبح، شكلاً فنّياً جميلاً، ولا يكتفي بمجرّد تسجيل المشاهد الجنسية، ومسحها على معظم المساحة السردية.‏‏

لا شكّ في أن الحياة الجنسية، بالإضافة إلى ما يُسمّى بالبذاءة، جزء من الحياة، وسردهما جزء من سرد الحياة بطبيعة الحال، لكنهما ليستا كلّية الحياة، ويُفترض بسردهما أن يتناسب مع المساحة التي تشغلانها من مساحة الحياة، في سبيل إقامة المعادلة المنشودة ضمن الإطار العريض للتجادلات القائمة بين الفن والحياة الواقعية. وتمضي بنا هذه الفقرات إلى استذكار الفرق بين مفهومي الكثافة والشفافية في النص الشعري، ويمكن الامتداد بالمفهومين من الشعر إلى الأشكال النثرية، بحيث يستمرّ مفهوم الكثافة مع اتّخاذه لبوسات وأشكالاً مناسبة للنوع النثري. ومن المهمّ في هذا الصدد أن نفرّق بين الكثافة من جانب، واللزوجة والكتامة، من جانب آخر. فالنص الكتيم لا يشف عن شيء بوصفه كتيماً، لكن النص اللزج، أو الرواية اللزجة هي التي تمارس الآن اصطياد الذائقة الأدبية على طريقة مصائد الذباب. وما يستدعي هذه الالتفاتة كثرة الروايات التي يتشكّل معظم مادّتها من الإفرازات اللزجة للأنثى، وكأنّ الأنثى المسرودة بأقلام الكاتبات الإناث خصوصاً مجرّد وسيلة لإنتاج المفرزات اللزجة أو استحلابها على حدّ سواء.‏‏

لا تدّعي هذه المادّة إحاطتها بكلّية المآزق التي يصعب أن ينجو منها أي تحوّل أو عملية تجديد، ومن غير أن تدّعي بالمقابل أن النصوص الجديدة جميعها تعاني هذه المآزق، فلا بدّ من التنويه بنصوص رائعة جديدة بالمعنى الدقيق للعبارة، نصوص روائية تسعى باتجاه إنجاز التراكم وتشكيل الظاهرة، لا تشكو مثلما يشكو سواها من ضآلة الموهبة، وهشاشة البناء المعرفي للمبدع، وضحالة الخيال وتجلّطه أو تخثّره، بالترافق مع استمراء الانصراف عن بذل الجهد، واستسهال الكتابة واستسهال النشر، وتذييل ذلك كلّه بانعدام الحس بمسؤولية الكلمة المكتوبة إلى حدّ نفي وجود أية قيمة ومحتوى لـ «المسؤولية» بإطلاق مفهومها. لقد فرضت النصوص الرديئة على حياتنا الثقافية المعاصرة وضعاً غريباً ومريباً، صار فيه أي نص «قابل للقراءة» نصّاً جديراً بالترحيب وإثارة الإعجاب.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية