تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ملامح واتجاهات

ملحق ثقافي
2/ 3 / 2010
نذيـر جعفـر:في تمييزه بين الملحمة والرواية يشير «باختين» إلى أن الملحمة ترتبط بالأرستقراطية, وتبني عالمها في مناخ أسطوري قديم, ومكتمل, وبعيد عن الزمن المعيش.

فيما ترتبط الرواية بسواد الشعب, وتنطلق من الزمن الحاضر غير المكتمل, الزمن المشاكس والمجدِّد والمجرِّب دائما. «1» ومن هنا كانت الملحمة نصّا ماضويا, ثابتا, مغلقا, والرواية نصّا مستقبليا, مفتوحا, متحرّكا.‏

وانفتاح الرواية وحركتها عبر الواقع المتغيّر وشروطه ورهاناته, يفترضان تجديدا مستمرّاً في موضوعاتها, وأشكالها الفنيّة, وزوايا نظرتها إلى الإنسان والعالم. وبذلك تكون «الجِدّة» ثيمة بنيوية في الجنس الروائي.‏

والرواية «الجديدة » بهذا المعنى, هي الجديدة زمناً ومحتوىً وشكلاً ورؤية ودلالة. وتصل هذه «الجدّة» بها إلى حدّ الخروج الكليّ عمّا سبقها من تقاليد روائية معروفة. وذلك ما نراه في حالة «الرواية الفرنسية الجديدة» التي جاءت نتاج تحولاّت اجتماعية وسياسية عميقة, وشكّلت قطيعة مع الإرث «البلزاكي», لا بل الواقعي عامّة! فإذا كانت الرواية الواقعية ُتعنى بتصوير الإنسان, ومحيطه الاجتماعي, وعالمه الداخلي, والأحداث التي يعيشها, تصويرا نموذجيا يرتهن للحتمية الاجتماعية والسيكولوجية, عبر حبكة يتعلق فيها اللاحق بالسابق في نسق زمني تتابعي,‏

وفضاء مكاني محدّد, بغرض تفسير العالم, وفهمه, والإجابة عن أسئلته, فإن«الرواية الجديدة NEW NOVEL» التي أُطلق عليها أيضا مسمّى «رواية اللارواية ANTI NOVEL» و«الرواية التجريبية EXPERIMENTAL NOVEL» ورواية الحساسية الجديدة, والرواية الطليعية, والرواية الشيئية»2», أي رواية «آلان روب غرييه», و«كلود سيمون», و«ألبير كامي», لم تعن ـ على تنوّعها واختلاف أدواتها وأساليبها وعوالمهاـ بالإنسان قدر عنايتها بالأشياء لذاتها! ولم تحرص على الفكرة, والحبكة, والأحداث, والزمان, والمكان, قدر حرصها على تشظيتها! ولم تهتم بتفسير العالم وفهمه قدر اهتمامها بتشييئه وتغريبه وزيادة غموضه والتباسه, معبّرة بذلك عن نظرة جمالية وفلسفية جديدة للحياة, ولمفهوم الرواية, تقوّض من خلالها التقاليد الروائية الراسخة, والنظرة الوثوقية, اليقينيّة للحياة, وتنسف أفق توقعات القارئ, وتستدعي إستراتيجية جديدة للتلقيّ.‏

وعلى الرغم من تراجع دائرة قراء الرواية الجديدة, وخفوت بريقها, حتى في موطنها, والمواقف المتباينة منها ما بين التبجيل والتسفيه, فقد أحدثت تحوّلا نوعيا في الكتابة, وتحفيزا في آليات الاستقبال, والنقد, التي نرى تجلياتها فيما كتبه عنها رولان بارت, وجورج باتاي, وموريس بلانشو,على وجه الخصوص.‏

إن «الرواية الفرنسية الجديدة» لم تتوقف عند حدّ, كما أن تنظيرات عرّابها «غرييه», بخصوصها كانت متناقضة»3», وهذا التناقض لم يكن دليل تخبّط بل خاصيّة من خصائصها البنيوية, ومظهرا من مظاهر جدّتها وحركيتها الدائمة التي لا تستقرّ على حال. فهي في النهاية ليست مدرسة بل تيّارا يتمرّد على التحديد والتقعيد والتصنيف, ويستمدّ مشروعيته من التنوّع والاختلاف بين كتّابه, بل حتّى بين عمل وآخر لأيّ منهم!»4»‏

ـ الرواية السورية الجديدة:‏

ليس في الرواية السوريّة «الجديدة» زاوية نظر فلسفية نوعية تميزها, أو حركة متبلورة فنيّا تمثّلها, وتترجم حراكها وتنظيراتها وتلقيّها النقدي, كما كان الأمر بالنسبة إلى الرواية الفرنسية الجديدة وروّادها. كما ليس هناك تشابه بينها والرواية الفرنسية الجديدة على مستوى وجهة النظر إلى العالم والإنسان, إنما هناك حالات فردية تلتقي بهذا القدر أو ذاك بعدد من السمات المشتركة التي تخرجها من دائرتي الرواية الكلاسيكيّة والرواية الحديثة وتنويعاتهما وتضعها في مصب التيار الجديد.‏

ولم تزل هذه «الرواية الجديدة» في دائرة الشبهة والاتهام والأخذ والردّ بشأن مستواها وقدرتها على منافسة كتّاب الحداثة وتنويعاتها الواقعية والوجودية والرومانسية من الروّاد والجيل اللاحق, الذين ما زالوا يستأثرون بالمشهد الروائي والاحتفاء النقدي مثل: حيدر حيدر, هاني الرّاهب, وليد إخلاصي, جورج سالم, نبيل سليمان, خيري الذهبي, غادة السمّان, عبد الكريم ناصيف, إبراهيم الخليل, أحمد يوسف داوود, عبد النبي حجازي, حسن حميد, محمد أبو معتوق, نيروز مالك, فوّاز حدّاد, ممدوح عزّام, فيصل خرتش, نهاد سيريس, غازي حسين العلي, علي عبد الله سعيد, محمد الحاج صالح, غسّان كامل ونوس, محمد رضوان, عبد العزيز الموسى, عادل محمود, أسامة الفروي, نصر مشعل, أنيسة عبّود, هيفاء بيطار, ابتسام تريّسي, ماري رشو.‏

تشكّل إرهاصات «الرواية السورية الجديدة» قطيعة نسبية مع نتاج الحداثة السابق, وقطيعة كليّة على المستوى الفنّي ومستوى الرؤية مع نتاج بلزاك الرواية الواقعية السورية «حنا مينا», ومعاصريه: صدقي إسماعيل, حسيب كيّالي, فاضل السباعي, فارس زرزور, وداد سكاكيني, ألفة الإدلبي, قمر كيلاني, كوليت خوري. وتتجلّى هذه الإرهاصات في أعمال كلٍّ من: خليل صويلح, خليل الرّز, خالد خليفة, عمر قدّور, محمّد دالاتي, روزا ياسين حسن, عبير أسبر, منهل السرّاج, سمر يزبك, شهلا العجيلي, مها حسن, على اختلاف تجاربهم وتباين مستواها ورؤاها.‏

لقد ترافق ظهور مصطلح«الرواية السورية الجديدة» ـ على ما فيه من غموض والتباس ـ مع تغيرات بنيوية عالمية وعربية ومحليّة تمثّلت في هيمنة الرأسمالية المتوحّشة على العالم, وانكفاء الإيديولوجيا, وتراجع الخطاب القومي وتذرره. وأسهمت عوامل عدّة في انتشار هذا المصطلح, منها: الإقبال المتزايد على كتابة الرواية من مختلف الأجيال, واتساع دائرة نشرها وتلقيها, وتنامي حركة نقدها ودراستها, وبروز جيل جديد من الكتّاب والكاتبات الذين عاشوا تداعيات مرحلة الثمانينيات وحاولوا مقاربتها روائيا بأشكال جديدة, وظهور جوائز خاصة بالرواية من قبل جهات رسمية وأهلية, وعولمة الاتصالات, واتساع دوائر الترجمة عن الآداب العالمية المختلفة, وتعدّد منابر التدوين على الإنترنت, التي كان لها التأثير الأكبر في المثاقفة والجرأة على كسر التابوهات بعيدا سلطة الرقابة.‏

ومما يلاحظ في الإرهاصات الأولى للرواية الجديدة ابتعادها عن النمطية وتحطيمها لمفهوم الشخصيّة النموذج/ البطل, وانحيازها إلى التجربة الذاتية عبر تشابكها مع مصائر الآخرين, وانفتاحها على المسكوت عنه اجتماعيا وسياسيا, وجرأتها غير المعتادة في مقاربة تابو الجنس والدين والسياسة, والدخول إلى الأماكن المغلقة والمهمّشة, والتحرّر من سطوة الرقابة بكل أنواعها, مستغلّة فرص النشر الممكنة في دول مختلفة, والفضاء العنكبوتي المعولم الذي يتيح التدوين من دون قيد أو شرط.‏

كما يُلاحظ تقدم سرد الأقليات الإثنية والمذهبية, والإيغال في التجريب إلى مداه الأبعد على مستوى اللغة من حيث شاعريتها وغنائيتها»سليم بركات في مجمل رواياته», واستثمار تقنيات السرد الزمني المتقطّع عبر الاستباق, والاسترجاع, والرسائل, واليوميات, والمذكرات, والمقبوسات التناصيّة مع التراث العربي والإنساني كما في «ورّاق الحب» لخليل صويلح, و«إيبولا» لمحمد دالاتي. وبرزت نزعة استلهام الماضي البعيد والقريب والتعامل معه بوصفه الحاضر المستمر الذي يلقي بثقله على مصائر الشخصيّات واختياراتها, كما في روايات«أبنوس» لروزا ياسين حسن, و«صلصال» لسمر يزبك, و«لولو» لعبير أسبر. وينفرد خليل الرّز في «أين تقع صفد يا يوسف؟» بتصوير شخصيّات افتراضية توهم بالواقع وتنفصل عنه في الآن نفسه بقدر ما فيها من عناصر واقعية وفانتازية. واستمرت نزعة استلهام السيرة النّصية وتذويت السرد كما في«بريد عاجل» لخليل صويلح, و«أسماء للنسيان» لعمر قدور, وظهر ما يسمى برواية السجن بوصفها تجربة جديدة تقارب الممنوع في السرد النسوي كما في «الشرنقة» لحسيبة عبد الرحمن, و«جورة حوّا» لمنهل السرّاج, و«حرّاس الهواء» لروزا ياسين حسن, التي تستعيد مرحلة الثمانينيات وتداعياتها, وتقتحم العالم الداخلي للمرأة كاشفة عن آليات القمع والكبت الجنسي وتجلياته على مستوى السلوك وما يسببه من ازدواجية مرضية, وهو ما يصوره خالد خليفة في «مديح الكراهية», ومها حسن من زاوية مختلفة في «لوحة الغلاف» و«سيرة الآخر», وشهلا العجيلي في “عين الهر” عبر خيبة بطلتها “أيوبة” مع الرجل الذي أحبته, راصدة أجواء المرأة الحلبية من خلالها, بما في ذلك العلاقة المثلية, التي تحولت عند سمر يزبك إلى نقطة تبئير مركزية في روايتها الأخيرة: “رائحة القرفة”.‏

وتحاول تجارب الجيل الحاضر في الرواية السورية الجديدة أن تخرج عن وصاية المنجز السردي السابق بتنويعاتها وخطاباتها الفنيّة والإيديولوجية المتباينة, متجاوزة الترسيمات النقدية التي حاولت تأطير الرواية وتحديد التخوم التي تفصلها عن باقي الأجناس الأدبية والفنيّة مثل الشعر والسينما والمسرح والتشكيل. فالمتأمل فيما قدّمه كل من: سليم بركات, خليل صويلح, خليل الرّز, خالد خليفة, عمر قدّور, محمد دالاتي, روزا ياسين حسن, عبير أسبر, منهل السرّاج, سمر يزبك, مها حسن, شهلا العجيلي, في السنوات الخمس المنصرمة, سيجد أن حساسية جديدة وتيارا مختلفا في الكتابة الروائية بدأ يعلن عن حضوره وسماته العامة على الرغم من الخصوصية التي تتمتع بها كل تجربة بمفردها.‏

إن «الرواية السوريّة الجديدة» التي لم تقطع حبل السرّة نهائيا بعد مع هموم الإنسان وأحلامه وانكساراته وواقعه, تعيش الآن مرحلة مخاض قد تكلّل بالولادة المعافاة إن أبقت على هذا الحبل بشكل من الأشكال, أو بالموت والانكفاء إن قطعته شأنها شأن كثير من الموجات والتقليعات والمدارس التي انصرفت عن الإنسان ومشكلاته وأسئلته وصراعه بين شروط وجوده وحلمه, وانشغلت بما يزيد غربته وتعاسته, وعلى ذلك يتوقف الرهان في المستقبل.‏

حذفت الهوامش لضرورات النشر‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية