تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تجديد ضمن مزاج المرحلة

ملحق ثقافي
2/ 3 / 2010
د.شهلا العجيلي : في أحد اللقاءات الصحفيّة، سألني محاوري: يُذكر كثيراً أنّك من كتّاب الرواية الجديدة في سوريّة، فماذا تعني الرواية الجديدة في سوريّة؟

وما هي مواصفاتها؟ فأجبت:‏

“ من منطلق نقديّ أقول إنّ تسمية الرواية الجديدة في سوريّة لا تعني، حتّى الآن، شيئاً، إذ ليس ثمّة نمط أو ملامح تجمع كتابات هذه المرحلة في سوريّة. ذلك أنّ التنميط يحتاج إلى أن تصدر مجموعة من النصوص عن رؤية واحدة أو متقاربة من جهة، كما يحتاج إلى فرصة زمنيّة تتبلور فيها الرؤيات النقديّة حول مجموعة النتاجات في مرحلة ما من جهة أخرى. في كتابي «الرواية السورية/ التجربة والمقولات النظريّة»، صنفت الرواية السوريّة وفاقاً لملامح مشتركة في كلّ عقد من عقود النصف الثاني من القرن العشرين، فكان هناك مثلاً «الرواية التاريخيّة السوريّة الجديدة» التي حضرت في الثمانينيّات، ووسمتها بالجديدة لأنها تختلف عن الرواية التاريخيّة التي كتبها معروف الأرناؤوط مثلاً، أو جورجي زيدان، إذ تنماز بظروف نشأة متشابهة، وبموضوع عام يحاكي موضوع الملحمة، وفيها فرد بطوليّ إشكالي مفارق للفرد الملحمي، وفضاؤها النصيّ ينبني على الأجزاء، وهكذا... وهناك رواية الظاهرة الاجتماعيّة التي حضرت في عقد التسعينيّات، إذ بات هناك التفات نحو الداخل السوريّ، بعد تهافت السرديّات الكبرى في العالم كالدين، والإديولوجيا، والتاريخ، وبعد تشظّي الهويّة القوميّة عربيّاً لاسيّما بعد حرب الخليج الثانية، وهذا لا يمكن أن نسميه كتابة جديدة، مع أنّ فيه اختلافاً واضحاً عمّا كتب من قبل، بل يمكن أن نسميه تجديداً ضمن مزاج المرحلة.”‏

.‏

انتهى جوابي لمحاوري، والآن وبعد مرور أشهر على كلامي ذاك، أؤكّد عليه، مع أنّني أستطيع أن أستشعر ما يجول في خلد الذين يتكلّمون بوجود رواية سورية جديدة، والذين أحبّوا هذه التسمية، لاسيّما من الذين يصنّفون من كتّابها، وهم في الواقع من الأصدقاء الأعزّاء، وقد سمعت هذا التعبير من بعضهم في بعض اللقاءات. إنّهم يقصدون حضور ملامح في الكتابة أهمّها: إقصاء الإديولوجيّات التي كانت حاضرة في الكتابة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، واقتحام «تابوهات» المرحلة السابقة، وأحياناً إطلاق أوسع للسان العوام.‏

لكنّ المطّلعين على تاريخ الرواية السوريّة يعرفون تماماً أنّ كتّاب المرحلة السابقة لم يكتبوا جميعاً في ضوء الإديولوجيا، وتلك كانت مادّة المعارك النقديّة منذ ستينيّات القرن العشرين، إذ هناك من كتب بهدي من رؤية العالم وليس من الإديولوجيا، أمّا فيما يخصّ اقتحام «التابو» والسياسي منه بخاصّة، ذلك أنّ «التابوهين» الآخرين الدينيّ والاجتماعيّ، ليس لهما فاعليّة حقيقيّة في الثقافة السوريّة، فإنّ اقتحام «التابو» لا يكون بعد أن يهبط مؤشّر قوّته الثقافيّة، ولكن يكون في أثناء بلوغه الحدّ الأعلى، ثمّ إنّه من المعروف تاريخيّاً أنّ الملفات المحظورة لابدّ من أن تفتح فيما بعد، بما فيها ملفات الحروب والانقلابات العسكريّة، وعلينا أن نعي مفصلاً مهماً من مفاصل نظريّة الأدب، وهو أنّ لـ «التابوهات» دورة، تختلف بموجبها سطوتها وفاقاًُ لمؤثّرات أخرى غير أدبيّة. وإذا تمعّنا في تاريخ الرواية السورية سنجد العديد من النصوص التي اقتحمت في كل مرحلة «تابوهات» تلك المرحلة. الكتابة الجديدة من وجهة نظري لا تكون بإقصاء إديولوجيا وإحلال أخرى بديلة، أي لا تكون بالتخلّص من متعاليات نصيّة من أجل فرض متعاليات أخرى، ولا تكون بتصنيع النصّ متعالياته الخاصّة، إنّها التخلّص تماماً من فكرة المتعاليات، وأعتقد أنّه كلّما تطوّرت الكشوفات الأركيولوجيّة تحرّرنا من فكرة المتعاليات، وتفرّغنا إلى صناعة طريقة قول ما هو إنسانيّ يوميّ. ويمكن القول: إنّ هناك أصواتاً جديدة في الرواية السوريّة، لأنّ الرواية السوريّة تشكّل تجربة بدأت مع فرنسيس المرّاش في ستينيّات القرن التاسع عشر، وما تزال مستمرّة إلى اليوم.‏

حينما ظهرت الرواية الجديدة في فرنسا في ستينيّات القرن العشرين، على أيدي روائيين ونقّاد من أمثال: آلان روب غرييه، ونتالي ساروت، ولوسيان غولدمان، كان ظهورها حركة كبيرة واضحة المعالم، وصاقبت انطلاقة النقد الجديد أيضاً، وقد ظهرت نتيجة عوامل غير أدبيّة، أهمّها الدمار الذي نتج عن الحرب العالميّة الثانية، وهزيمة فرنسا في فيتنام، والثورة الجزائريّة، فكان أن خرجت كلّ من الشخصيّة، والمكان، والزمان، من عالم الواقع إلى عالم الخيال، وانتهت امتيازات أيّ عنصر قادم من خارج النصّ، أو من خارج اللغة. كان ثمّة قرار جماعيّ بإنشاء المختلف، صادر عن مجموعة أطلقت بياناتها الثقافيّة الواضحة، وغيّرت معايير الكتابة الروائيّة، ليس في فرنسا فحسب، بل في أوربة برمّتها، وفي من حاكى تلك الكتابة في العالم، لكن ثمّة فرقاً بين أن تتشكّل مرحلة جديدة بملامح جديدة، ومختلفة، وأن ندخل في مزاج مرحلة. وأعتقد أنّ الرواية العالميّة والعربيّة اليوم تنفر من فكرة التنميط، والانضواء الجماعيّ، وتتخذ درب الذاتيّة التي تتفرّع إلى الفرديّة، لكنّها فرديّة تنبض بحياة العامّ.‏

لا يكتسب القديم قيمة من قدمه، ولا الجديد من جدّته، فما الضير لو كتب كاتب من جيل سابق، وصاحب رؤية وأسلوب راسخين في البنية الثقافيّة، رواية وفاقاً لمزاج هذه المرحلة، وتتسم بالاختلاف عن رواياته السابقة، هل سنستطيع حينئذ إقصاءه عن الرواية السوريّة الجديدة لأنّه صوت قديم!‏

إنّ أيّ رواية تمتلك رؤية جديدة تجاه ظواهر الواقع والطبيعة، وتقدّم بوصفها بنية فنيّة مختلفة هي رواية جديدة، لا يتوقّف ذلك على عمر الكاتب أو المرحلة التي أنتج فيها، لأنّ كل كاتب يأتي بعد، هو جديد بالنسبة إلى ما قبل. ولعلّ الحساسيّة الجديدة هي المعيار، ولا شكّ في أنّ كل جيل سيكتب من منظار مختلف، لأنّ جملة العوامل الثقافيّة «الاقتصادية- الاجتماعية- السياسيّة» ستكون مختلفة، و»التابوهات» ستختلف أيضاً، وفاقاً لدورتها، فتجلّيات محظورات الثمانينيّات هي غير تجلياتها في الألفيّة الثالثة. عموماً نحن نحبّ اجتراح التسميات، ونرغب دائماً في تقييد الظواهر باللغة، رغبة منّا في خلق جديد يجعلنا في حالة حراك، لكن الدراسات النقديّة الحصيفة هي التي بإمكانها أن تخضع المفاهيم للدرس، وأن تطلق المصطلحات التي شرطها الأساس هو أن تصطلح عليها الجماعة المختصّة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية