|
حدثت هذه القصة في الماضي السحيق. كانت الحاجة أمون وأما عن المرأة التي تلد البنت فلا تقول (ولدت) أو (خلفت) أو (جابت) بل تقول: - دجت بنتاً! وأحياناً تختصر العملية كلها بالقول (دجتها)! وكان في البلدة أيامذاك مولِّدة (داية)، مهنتها لا تعلم في المدارس والجامعات، بل تكتسب بالممارسة على يد داية معلمة. وكانت الحاجة أمون تدعى إلى جلسات الولادة التي تحدث في البلدة لأسباب عديدة، أولها أنها زوجة أحد وجهاء المنطقة، والثاني، أنها جميلة الوجه صبوحة، يعني أنها فأل خير، والثالث أن ظلها خفيف، فإذا ولدت المطلق صبياً، قلبت الجو ضحكاً ومرحاً ورقصاً وزغاريد.. وإذا (دجتها) سرعان ما تنسل وتخرج من المجلس ولا من أحس بها ولا من دري. وكان وجود الأطباء المختصين بالتوليد شبه معدوم في المنطقة كلها، فإذا تعسر المخاض مع المرأة فإن الأمر ينذر بوقوع كارثة قد تذهب ضحيتها المرأة والطفل الوليد معاً. وذات مرة، في وقت متأخر من الليل، تعسر المخاض مع ابنة الحاجة أمون شخصياً، والقابلة أعلنت عجزها وقالت: - شيلوها إلى حلب. فاضطربت الحاجة أمون وشرعت تدور في مكانها مثل الدبور المحبوس داخل القطرميز، ثم أوعزت لمن حولها من رجال العائلة أن يتدبروا سيارة، ففعلوا، ونقلوها إلى مستشفى الكلمة بحلب، وهنالك تسلمتها الممرضات، وقمن بما يلزم لها من إسعافات، واتصل الممرض المناوب في الإدارة بالدكتور المختص بالتوليد في منزله، وطلب منه الحضور لأجل إنقاذ الوضع القائم. في تلك اللحظة سيطر القلق والتوتر على الحاجة أمون، وما عادت تفكر بجنس المولود، سواء أولدت ابنتها صبياً مثل فلقة القمر، أم (دجت) بنتاً.. لا بل إنها صرحت للذين كانوا معها أنها ستذهب إلى جامع زكريا في اليوم التالي، وتقرأ مولداً للمصطفى إذا نجت ابنتها من الموت، حتى ولو دجت بنتاً! ومن فرط قلقها أمضت أكثر من ربع ساعة وهي تنتقل من ممرضة إلى ممرضة وتسألهن: - هل أتى الطبيب؟ - هل وصل الطبيب؟ - لماذا تأخر الطبيب؟ - وفي هذه الحالة، أعني التأخير، ماذا سيجري لبنتي؟ هل ستموت؟ هل سـ...؟ وهن يلاطفنها ويؤكدن لها أن الوضع ليس مخيفاً إلى هذه الدرجة، وأن الطبيب ليس من عادته أن يتأخر، فأولاً بيته ليس بالبعيد، وثانياً هو إنسان جدي وملتزم. ولكنها لم تتوقف عن الإلحاح فقالت لها إحداهن: - يا حاجة شغلك الآن ليس عندنا، اذهبي إلى الشرفة وخلي عينيك على الشارع، فالطبيب حينما يصل يراه الواقف على الشرفة قبل أن نراه نحن الموجودين في الداخل. قالت: ولكنني لا أعرف الطبيب، ولا بعمري رأيته. قالت الأخرى: انتبهي لسيارته، لونها أحمر. قالت الحاجة أمون: الآن فهمت. وركضت إلى الشرفة بسرعة البرق، ووقفت هناك وأسندت ساعديها على الحافة، وشرعت تنظر إلى الشارع وتتفحص السيارات العابرة. بعد قليل دوى زمور الخطر في المنطقة، وخرج كل من كانوا في المستشفى إلى الشرفة، يدفعهم الفضول لمعرفة ما يجري، فرأوا حريقاً يندلع من البناية المجاورة، وسرعان ما رأت الحاجة السيارات الصغيرة والناس العابرين يبتعدون من الطريق، وما هي إلا لحظات حتى شقت الطريق سيارة الإطفائية ذات اللون الأحمر، ونزل منها الرجال، وفكوا الخراطيم، وبدؤوا بإطفاء الحريق، بينما الحاجة أمون أخذت تصيح بملء صوتها: - أليست هذه سيارة الطبيب؟ فأين هو؟ لماذا لم ينزل منها؟ ألم تقولوا لي إنها حمراء؟ انظروا، إنها حمراء. قسماً بالله حمرا! - يتبع - |
|