|
ثقافة وقفت أمينة متحف دمشق التاريخي إلهام محفوض عند واحدة من هذه الأوابد وهو بيمارستان النوري في محاضرتها التي ألقتها في مركز ثقافي جوبر.. تعني كلمة البيمارستان (دار المرضى) وقد أنشئت لتحقيق أهداف ثلاثة، علاج المرضى على اختلاف الحالات، تعليم الطب، تطوير البحث العلمي.. أسس البيمارستان السلطان الملك العادل نور الدين الزنكي وهو نموذج لفن العمارة في المرحلة السلجوقية وكان يماثل القصور الملكية بترفه وكان يعالج فيه الفقراء والأغنياء مجاناً يقدم لهم الطعام والدواء والعلاج.. وصفته المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكة) في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) قالت: في القرون الوسطى كان المرضى المختلون عقلياً في الغرب هم الضحايا البائسة للدعوة القائلة «بالعقاب الإلهي للخطيئة» وكان شفاء الاضطرابات النفسية والعقلية خاضعاً لمهمات الكاهن في استخراج العفريت الذي يسيطر على المريض وفي حال عجزهم عن استخراجه لجؤوا إلى تكبيله وسجنه وحجزه في ملاجئ، كان فيها سياطاً لحراسه.. بينما كان المريض النفسي في البيمارستان النوري يحظى بعلاج خاص ومراقبة شديدة ومعالجات دقيقة وحكيمة تجرى من قبل اختصاصيين بوسائل أقرب ما تكون إلى وسائلنا العصرية إضافة إلى استخدام الموسيقا.. ومن الأطباء الذين اشتهروا في البيمارستان (أبو المجد بن أبي الحكم).. كان يزور المرضى ويتفقد أحوالهم ويصف الدواء والغذاء ثم بعد ذلك يجلس في قاعة الدرس حيث تعقد المناظرات والمناقشات بين الأطباء ويجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم وتلك هي الطريقة التعليمية المثلى. ومن الأطباء مهذب الدين النقاش، رضي الدين الرحبي، ابن المطران.. وفي خزانته ما يقرب من عشرة آلاف من الكتب الطبية.. ومن الشخصيات التي تميزت بعلو شأنها في التعليم الطبي (مهذب الدين عبد الرحيم بن علي) واشتهر بطب الكحالة (العيون).. وله يعود الفضل في تأسيس أول مدرسة طبية خاصة لتدريس الطب.. والطبيب الأهم الذي نبغ في البيمارستان هو ابن سينا وهو القائل: «لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى مدة عشرة آلاف سنة فما وصفتها» وقد تجاوزت شهرته عصره وزمانه بفضل مؤلفاته الكثيرة وتصانيفه وتجاربه واعتماده التشريح المقارن واكتشاف الدورة الدموية الصغرى قبل نظيره الانكليزي الهارفي بأربعة قرون... ومن الطرائف التي تروى عن اهتمام البيمارستان بمرضاه.. أن أعجمياً من أهل الذوق واللطافة دخل البيمارستان النوري ونظر ما فيه من المأكل والتحف واللطائف التي لا تحصى فأراد اختبار رجال البيمارستان المذكور فتمارض ثلاثة أيام ورئيس الأطباء يتردد إليه ليختبر ضعفه فلما جس نبضه وعلم حاله.. وصف له ما يناسب من الأطعمة الحسنة والدجاج والحلوى والأشربة والفواكه المتنوعة ثم بعد ثلاثة أيام كتب له ورقة من معناها: (أن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام.. وهذا في غاية الحذاقة والطرافة). أما كيف بني البيمارستان فلذلك قصة أيضاً.. ففي السنة التي دخل فيها نور الدين الزنكي دمشق كان قد أسر بنفسه أثناء غزواته أحد ملوك الفرنجة. فأشار عليه مجلس أعيانه أن يطلق سراحه مقابل فدية تقدر بثلاثمئة ألف دينار ذهبي.. فأطلقه وبنى بما أخذه هذا البيمارستان. وبعد ذلك ألا يحق لعلمائنا أن نقف لهم إجلالاً ووفاء لما أبدعوه من روائع.. وبصمات تشهد على تطور علومهم الانسانية كافة وخصوصاً في الطب والصيدلة. إن هذه الروائع والإبداعات أمانة بأعناقنا يجب أن نحافظ عليها لتكون أمثولة للأجيال القادمة. |
|