|
ثقافة التي تحرك مخاضها في أواخر الأربعينيات وأعطت بوادر أكلها في أواخر الخمسينيات عدد من الشعراء المبدعين الذين أرسوا دعائم الشكل الجديد للقصيدة العربية وشحنوها بشحنات مبتكرة من حرارة التعبير وانفتاح الرؤى وغنى المضامين والأفكار وكان في مقدمتهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني وخليل حاوي. أصدر خليل حاوي على التوالي ثلاث مجموعات شعرية هي (نهر الرماد) (الناي والريح) و(بيادر الجوع) ويكاد يجمع النقاد الجادون أن «خليل» شاعر كبير متفرد متميز من الشعراء الأساتذة الذين اختطوا للشعر الحديث خطوطاً وقواعد وأصولاً أصبحت بتعاقب السنين صُوى متلألئة على طريق الفن والتجديد بالنسبة لأجيال الشعراء اللاحقة لجيل الحاوي وجماعته، فمن حيث المضمون اهتم خليل بهموم حضارية عصرية مأساوية يعاني منها الإنسان العربي في صراعه مع قيم بالية نخرة في المجتمع المتكلس القديم ومحاولته التمرد والانتصار على ذاته المسحوقة وفي نشدان الخلاص وسعيه المقهور للتسلح بروح العلم الحديث ومنطلقات النزوع العقلي وفي فرز الخرافات من واقع حياته الرتيبة، من هنا كانت تجربته الشعرية تجربة وجودية إنسانية غنية تتصل برهافة عالم الشعر من جهة صياغته وتغوص في مجاهل الفلسفة الكونية الشمولية من جهة فكرية، إلا أننا نستطيع القول إن تجربة الحاوي متفائلة بالرغم من أنها تعالج موضوعات محزنة وتصدر عن نفسية متوفزة الأعصاب، متأججة الشعور ومن حيث الشكل نجح خليل في الاهتداء بأصالته الشعرية وبرصيده الثقافي إلى ابتداع صيغ عربية أصيلة المحتد إضافة إلى تراثيتها الشعبية تحمل من زخم الطاقة ما يقوى على استيعاب مجالات الرؤى الجديدة وإيماءات الصور وحيوية الرموز. وليس أسهل من أن نضرب أمثلة على هذه الإبداعات التي ابتكرها الشاعر في مجموعاته الثلاث، فقدرة خليل على التوليد والتجديد قدرة خلاقة في العبارة والصورة، في الموسيقا والإيقاعات، في الألوان والظلال (فالضوء المداجى وبومة التاريخ والعواميد من الملح والوجه المستعار والصدى المعرى وعبر صحراء الجليد) أمثلة عابرة جرت مجرى التقليد والاستيحاء من قبل أجيال الشعراء الشباب الذين اتكؤوا عليها في محاولاتهم التجديدية بعد تيار الحاوي، ولعل ما يميز خليل حاوي عن غيره من شعراء مدرسته وجيله هو استعماله المتقن الشديد التركيز والكثافة للأساطير الشعبية التراثية البيئة وغيرها والرموز الحضارية التي تنفذ عبر الظاهر إلى أعماق النفس وأمداء الوجود وبراعته الفائقة في إعطائهما أبعاداً معاصرة ونفي ما يعلق بهما من روائح القدم، إلا إذا كان هذا القدم يلقى ضوءاً على الفكرة المعالجة أو يكسب الرؤيا الشعرية أبعاداً جديدة وأشهر أساطيره التي استعملها أسطورة الخضر الذي سيبعث من جديد ليمثل انتصار قوى الخير والمحبة على قوى الشر والتباغض، وأسطورة تموز وما ترمز إليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجفاف. يا إله الخصب يا بعلاً يفض التربة العاقر يا شمس الحصيد أما رموزه فكثيرة أشهرها (البحار) الذي يرمز إلى الذات الغربية التي انطلقت تنزع ستائر المجهول وتكشف القارات البكر، وتستعين بالعلم على تطويع المادة و(الدرويش) الذي يمثل الذات الشرقية الزاهدة في المغامرة واكتشاف المجاهيل والمدينة التي ترمز إلى الانغلاق والقلق والتمزق والضياع. على أن الناحية المهمة التي تميزت بها دواوين خليل حقاً في تاريخ الشعر العربي الحديث غناؤه الوجداني الصافي الأصيل للبعث العربي المأمول المنتظر بمعناه الحضاري الشامل، وإيمانه الصميمي بنهوض الأمة العربية من كبواتها أشد عنفواناً وأكثر إصراراً لتصنع مستقبلها التقدمي مجدداً على أيدي شبابها المزودين بالنقاء الثوري والعلم والمستعدين أبداً للتضحيات الجسام حتى الموت في سبيل عودة الفارس العربي كياناً حياً، متجسداً، جريئاً، بانياً للحضارات، متصاعداً ومتلاحماً مع حركة التاريخ، متجاوزاً السلبيات والسدود. إن لي أطفال أترابي ولي في حبهم خمر وزاد من حصاد الحقل عندي ما كفاني وكفاني أن لي عيد الحصاد لقد طلع هذا الشاعر على دنيا الشعر كشمس تخترق الضباب في نهار خريفي غائم بصوته العربي ذي النبرة الهادرة، ينطلق من لبنان متغنياً بصوته العربي ذي النبرة الهادرة فيه بالانبعاث القومي القادم للشخصية الحضارية المأمولة في بنية الجيل العربي الجديد، الخارج من قمقم التوابيت والأضرحة والتحنط الطويل، تذوب فيه ذات الشاعر الفردية الخاصة في الذات الجماعية العظمى، ذات الشعب وطليعة الشعب، يقول حاوي معبراً عن ذلك في قصيدته «الجسر» يعبرون الجسر في الصبح خفافاً أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد؟ من كهوف الشرق من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد أضلعي امتدت لهم جسراً يعد رحيل خليل حاوي عام 1982 خسارة جسيمة لحركة الحداثة الشعرية في الشعر العربي المعاصر، وخاصة بعد أن تهاوى قبله شاعران مؤسسان من روادها هما بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وبذلك تفتقد هذه الصبوة الشعرية المحتدمة بالحراك والجدة في تاريخ تطور الشعر العربي الحديث ثلاثة من أعلامها المبدعين على مدار عقدين من السنوات تقريباً من القرن الماضي في كل من العراق ومصر ولبنان، لكن ركبها كان لا يزال مستمراً يحث الخطا أو يتعثر بها وطريقها ما برح سالكاً أو وعر المتابعة، هذا على الرغم من موت آخرين من مشاهيرها وسدنتها الكبار كأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وبقية الغائبين عن أشعتها خلف الشمس الغارقة في بحار من الحزن عليهم وكانوا عماداً لها وقوة تستقوي بها في تحديها لأعاصير رفضها والوقوف في وجهها من قبل مناوئيها وخصومها!! |
|