|
فضاءات ثقافية
لغاية العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، بقيت النساء شبه غائبات عن الحقل الأدبي، فهن لم يكن «موجودات» إلا عبر الفسحة التي كان يقدمها لهن الرجل. من هنا جاءت الثورة الدستورية في العام 1906 لتساهم بقوة، في تطور وضع المرأة وتحسين شروطها، إذ بدأ بعض المثقفين بالتحدث، أكثر فأكثر، عن حقوق المرأة في المجتمع. فجاءت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى لتشهد، باطراد، موضوع المرأة الذي بدأ يأخذ مكانته في الأدب الإيراني. في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية شهدنا، بخاصة، بداية هذه العبارة النسوية التي دخلت إلى قلب الحقل الأدبي، الذي عرف مرحلة جديدة، يمكن أن نقول عنها إنها مرحلة البحث عن الهوية. إذ إن النساء اللواتي كان عليهن أن يتواجهن مع المشكلات الجديدة، احتججن بطريقة متصاعدة ضد عملية أبعادهن التاريخية. فأحداث الثورة أتاحت لهن الفرصة بالخروج من الإطار الضيق والتقليدي لكي يبحثن عن هوية اجتماعية. وعلى ما تجد «شاهرنوش باريسبور» كان لتجربة الثورة والحرب ولنتائجها النفسية-ـ الاقتصادية، الدور«في وضع المرأة وسط حقل الأحداث»، التي تضيف: «أكتب لأنني بدأت أفكر؛ لقد نزعوا عني فجأة جلد «البقرة» الذي كان يلتصق بي، أكتب إذ إنني، ظاهرياً، في طوري لأصبح كائناً بشرياً: أريد أن أعرف من أنا». إزاء ذلك، وبعد التخلص من بعض المعوقات، بحثت النساء عن هويتهن وحاولن أن يثبتن حضورهن عبر الكتابة. ففي إيران المعاصرة، تكبر وتتسع مشاركة المرأة في الحياة الأدبية، لدرجة أن بعض النقاد يجنحون إلى القول، إن الأدب الإيراني المعاصر هو أدب نسائي أكثر من كونه «رجاليا». ضمن هذا المشهد، تشكل سيمين دانشور، أول وجه نسائي كبير، والوجه الأبرز لهذا الأدب النسائي. إذ تحتل أعمالها الروائية مكانة خاصة في الأدب الإيراني المعاصر. وعلى الرغم من النظرة السلبية التي توجه إلى الشخصية النسائية في القسم الأكبر من الأقاصيص الإيرانية, وحتى التي تكتبها أحيانا المرأة الكاتبة,ـ إلا أن سيمين دانشور قدمت الشخصية النسائية بجميع مظاهرها. استمدت موضوعات كتابتها من الحياة الواقعية؛ من هنا، جاءت «نتائجها» لتتناسق جيداً مع واقع الحياة، إذ مثلما كانت تقول: «أرغب في أن أكون شاهدة على العصر، مثلما أريد أن أحيل الواقع مثالياً؛ هذا هو الأدب، بنظري.» سيرة ولدت سيمين دانشور عام 1921 في شيراز. كان والدها طبيباً معروفاً ومحترماً في عصره، كما أن أمها تنحدر من عائلة شهيرة، إذ كان أحد أقاربها «الحاج مجتهد» أحد رجال الدين المعروفين. نشرت أول مقالاتها، وهي في السادسة عشرة من عمرها، في صحيفة شيراز المحلية، وبعد دراستها الثانوية، ذهبت إلى طهران حيث تابعت دروسها في الآداب الفارسية في جامعة طهران. أجبرتها المشكلات المالية التي عرفتها بعد وفاة والدها على العمل، فعملت في الإذاعة حيث كتبت سلسلة من الحلقات بعنوان «الشيرازي المجهول»، التي لم تعرف النجاح الكبير. بعد ذلك، كتبت في صحيفة «إيران» بعض المقالات كما نشرت فيها بعض الترجمات، لتقرر خلال هذه السنوات التي عملت فيها بالصحافة أن تبدأ بكتابة «القصص الخيالية». «النار المطفأة» عنوان مجموعتها القصصية الأولى التي صدرت عام 1948، وهي أول مجموعة قصصية لامرأة تصدر في إيران. بعض هذه الأقاصيص نشرت سابقاً في بعض الصحف، لكن إن دلت على شيء، فعلى السمات الرئيسية لأدبها الذي بلورته فيما بعد، أي نجد موضوعة المرأة ووضعها في المجتمع. في عام 1949، حازت الدكتوراه في «علم الجمال» في الأدب الفارسي لغاية القرن السابع عشر. لتتزوج بعد سنة بجلال أحمد، المثقف الإيراني الشهير والكاتب الملتزم، لتسافر بعد سنتين إلى الولايات المتحدة، لإكمال دراستها في علم نفس الفن، ولتتابع هناك بعض مدارس الكتابة الإبداعية، التي استفادت منها كثيراً، إذ بدت التقنيات الكتابية الجديدة تدخل على أسلوبها. وبعد عودتها إلى إيران، درّست مادة علم الجمال في مدرسة الموسيقا العليا التابعة لمعهد الفنون، لتأتي مجموعتها القصصية الثانية عام 1961 بعنوان «مدينة مثل الجنّة» والتي تميزت بالعمل اللغوي، أي حاولت أن تكتب بلغة «قريبة من لغة الشعب» وأكثر حفراً من تلك التي كتبت بها مجموعتها الأولى. ومع ذلك لم تعرف شهرة كبيرة، بل بقيت الكاتبة مجرد «زوجة جلال أحمد». لم تأتها الشهرة إلا بعد أن نشرت رائعتها عام 1969 بعنوان «سوفاكون» التي أفردت لها مكانة بين كبار الكتّاب الفارسيين المعاصرين، والتي اعتبرت أكثر رواية إيرانية مركبة، حتى إن البعض وجد أنها تخطت «جلال الأحمد»، الذي وافته المنية قبل صدور الرواية. روايتها هذه، كانت أيضاً أول رواية كتبتها امرأة إيرانية وتتكلم بلسان امرأة وبنظرتها إلى العالم. وإذا كانت هذه الرواية وضعتها بين كبار الكتّاب الإيرانيين، فإن مجموعتها القصصية «إلى من يمكنني أن أقول صباح الخير» التي صدرت عام 1980، جعلت منها أيضا واحدة من أهم القاصين، حتى وإن كانت تستعيد فيها العديد من موضوعاتها السابقة، وبخاصة الاجتماعية. بينت عملية تنوع الشخصيات الحاضرة في أقاصيصها على فهمها العميق لمختلف جوانب المجتمع الإيراني، لترسم لوحات هائلة عن العقلية والتطلعات والآمال وأنماط العيش المختلفة. لذلك اعتبرت كتابتها مرآةً حقيقية للمجتمع. هذه المرآة عادت لتحضر في كتابها «فقدان جلال»، التي روت فيه أيام جلال الأحمد، زوجها، الأخيرة، ليصبح العمل واحداً من أكثر الشهادات الصادقة التي كتبت عن المثقف الإيراني الراحل، والذي عدّ من أفضل ما كتب عنه. لكن سيمين دانشور، لم تعد إلى الرواية إلا عام 1991 مع رواية «جزيرة التيه» التي شكلت الجزء الأول من ثلاثية، تضمنت مزيجاً من التعليقات التاريخية والتخيلات الروائية، مثلما نجد أيضاً العديد من البورتريهات لبعض الشخصيات التاريخية والثقافية التي وسمت إيران المعاصرة. تشكل رواية «سافوكون» الكتاب الأساس في مسيرة دانشور، فعدا عن كونها جعلتها معروفة من قبل القارئ الإيراني وغير الإيراني, إلا أنها أيضاً حملت جميع التفاصيل الفكرية لكاتبتها. مع رحيل سيمين دانشور، تفقد إيران واحدة من أكبر كاتباتها وأبرزهن في العصر الحديث، تفقد واحدة من اللواتي جعلن النثر (النسائي) حاضراً في قلب مجتمع لم يكن ينظر إلى المرأة نظرة من يستطيع الكتابة، وكأننا بذلك نستعيد قول فيرجينا وولف الذي كتبته عام 1929: «إلى فترة قريبة ماضية لم تكن النساء في الأدب سوى اختراع الرجل». |
|