|
ثقافـــــــة آلوا على مفرداتهم ألا تنطق إلا به, وسواء بلغة الحب والتضحية والالتزام بعبادته، أو بلغة الغضب والتمرد الثائرة والمتوعدة بأن: لابدّ من استقلاله وحريته.. إنه الشاعر (معين بسيسو) أحد أركان شعر النكبة والثائر الذي كان لقصائده الدور الأكبر والهام، في حملِ راية الكفاح والمقاومة. أيضاَ المناضل الذي ورغم أنه جاب أنحاء التشرد والغربة إلا أن (غزة) بقيت أبداً في ذاكرته، تلهب محطات رحيله فتعيدها إلى أولى المحطات الطفولية, وبما أكده بقوله الدائم وأنَّى ارتحل: «من غزة.. أحمل ذكرى غجرية, أرضعت طفولتي ترياق الرحيل, ومن يومها وأنا ابن النارِ.. على رأسي عصبة تحمل اسم المحطات ومواعيدِ الرحيل».. نعم.. هي غزة، التي أطلق عام/1926/ أول صرخة حياة فيها، والتي ما إن أنهى فيها علومه الابتدائية والثانوية، حتى انخرط في العمل الوطني، ليلتحق بعدها بالجامعة الأميركية في القاهرة، ومن ثمَّ ليعمل وبعد أن تخرَّج منها، كمدرِّسٍ وصحفي.. وتباغته النكبة, فيسارع وكسواه من الشعراء الذين فضحوا الخيانة والعمالة والاحتلال، للدعوة إلى المقاومة والتمسك بالأرض, حتى وإن كان الثمن نزيفاً يليه نزيف. أنا إن سقطتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاحِ واحمل سلاحي لا يُخفكَ دمي يسيل من السلاحِ أنا لم أمتْ.. أنا لم أزل.. أدعوكَ من خلفِ الجراحِ من هنا بدأت غربة (بسيسو) فقضى فترة من حياته في مصر، اتَّصل خلالها بالحركة الثقافية وتولى الإشراف على صفحة في جريدة الأهرام, لينتقل بعدها إلى / موسكو/ ثم / دمشق/ وكان ذلك عام /1967/ العام الذي بدأ فيه عمله في جريدة (الثورة) التي قضى فيها عامين توجه بعدها إلى بيروت ليلتحق بالثورة الفلسطينية.. هكذا عاش وفي ظلِّ مطاردةِ وسجنِ ومنافٍ، ودون أن يمنعه كل ذلك من المحافظة على ثبات مواقفه الشعرية، ليتحوَّل وبعد أن انتشر شعره الثائر والمقاوم، إلى صلة وصل بين جميع الفلسطينيين، وسواء المشردين أو المنفيِين أو المتواجدين في أرض الوطن ومخيمات اللجوء.. ويستمر... وتزداد جرعة إصراره على التحدي. تحدي الطغاة المحتلين المدجَّجين بالأسلحة والوحشية، أمامه هو الأعزل إلا من قلمه وصدره الذي شرَّعه للاستشهاد.. رافضاً التوطين صارخاً يعلنها رفضاً للمساومة: قد أقبلوا... فلا مساومة المجدُ للمقاومة إذاً.. هذا ما دعا إليه، وبعد أن وجد أن (فلسطين) قد تحوَّلت إلى مخيمات من حبالِ وأوتادِ. وأيضاً بعد أن شهد معاناة شعبه الذي تحول إلى جثث وأشلاء وبقايا هوية.. هوية مثلما طالبَ بمواصلة المعركة حتى استعادتها، طالب وفي قصيدته (فلسطين في القلب) بأن تبقى الأرض.. الحقل.. اخضرار الحصاد.. الكرامة والحرية. يا أيادي... ارفعي عن أرضي الخضراء ظلَّ السلسلة واحصدي من حقلِ شعبي سنبلة ياجماهير بلادي.. ارفعي عن أرضي الخضراء أغلالَ الجرادِ بيد أن صرخة (معين بسيسو) المقاومة، ارتأت بأن تكون صوت ضميره، وفي وصف كل ما تعرَّض له الوطن بعد النكبة التي هجَّرت شعبه ومزقت أرضه، وبطريقةِ تناولها بتفاصيل نجدها مؤثرة في قصيدته (المهاجرون). القصيدة التي كانت أشد رأفة في وصفٍ وجدناه أشد إيلاماً وتأثيراً في قصائده التي دوَّنت بقايا المدن والأحياء والأشلاء الفلسطينية.. وهمُ.. والليالي تنسى الغريب وتُلقي على الذكرياتِ الحجاب مضوا يحفرون بدمعِ العيون ودمع القلوبِ طريق الإياب أخيراً.. ما علينا إلا القول: هل أصعب من أن يموت الإنسان في البلد الذي كان سبب غربته وتشرده وخراب وطنه وتمزيق وجود أهله وشعبه؟.. بالتأكيد ليس أصعب من ذلك، ليكون الأصعب منه أن يموت فلا يدفن في وطنه، وبسبب حقد وعنصرية وعدوان المحتل الناقم حتى على الكلمة القصيدة... توفي(بسيسو) في /لندن/ /1984/ وفي غرفة مغلقة وخالية إلا من أنفاسه الثائرة، لينقل بعدها إلى القاهرة ويدفن فيها، ولتبقى لعنته. لعنة شعره ولعنة الوطن، على من شرَّده وأبعده ودنس حرمة أرضه، ولتبقى ذكراه: شاعر النضال والشعب وبصرخةٍ صداها: سأقاوم.. |
|