|
إضاءات وربما بمصداقية أكبر، بل هو الأقدر على توثيق ذاكرة الأمم، والشعوب. أما علاقة النص الأدبي بالمكان فهي حية، ومتجددة باستمرار، فلا وجود لأحداث دون فضاء المكان، وما دامت وقائع الحياة تنساب بين بعدين هما الزمان والمكان، فإن للأخير بعداً ملموساً يشارك في أحداث النص الأدبي، وفي علاقة تفاعلية تأخذ مسارها في اتجاهين: فالنص الأدبي يوثق للمكان، ويؤصل له.. والمكان بدوره يترك بصماته على النص إذ يشارك به، ويصبح واحداً من شخصيات القصة، أو الرواية، بل بطلها بتعبير أصح. والأدب عندما يرصد أماكن تاريخية فإنه يبني جسور تواصل بينها وبين العالم ليعيد تشكيلها في الذواكر مهما تباعدت المسافات بين هذا وذاك. والأمثلة على ذلك كثيرة كما في رواية (داغستان بلدي) لرسول حمزاتوف، و(خان الخليلي)، و(زقاق المدق) لنجيب محفوظ، وقلعة (دراكولا) في رومانيا والتي دارت فيها أحداث رواية (برام ستوكر) وقد أصبحت مقصداً سياحياً. وعن نفسي أقول، وقد تأثرت بما قرأت شأني شأن غيري من الناس، أنني عندما قرأت (ضياع في سوهو) لكولن ويلسون لم أغادر لندن قبل أن أزور ذلك الحي الشهير، وعندما توجهت الى منطقة البحيرات في اسكوتلاندا كانت بلدة (ويندرمير) مقصدي، و(مروحة الليدي ويندرمير) لأوسكار وايلد تلوح لي من بعيد. وها هي إحدى روايات (فيكتور هوغو) التي نُشرت قبل ما يقارب قرنين من الزمن تثبت دور الأدب في حيز المكان.. وأحدب (نوتردام)، أو (كوزيمودوا) ما كان ليتوقف عن قرع الأجراس لو كان يعلم أن حريقاً هائلاً سيلتهم كنيسته بعد أكثر من ثمانية قرون من بنائها. (أحدب نوتردام) رائعة هوغو التي وثَّقت لكاتدرائية (نوتردام) في القلب من باريس، لم تكتف بأن ألقت ضوءاً كاشفاً على ثغرات البناء آنذاك ليصار إلى ترميمها، بل إنها أيضاً رسخت ذلك الأثر التاريخي الذي يعتبر تحفة فنية معمارية في ذاكرة القراء، فإذا به يصبح مقصداً لأفواج متدفقة من السياح يزورون عاصمة النور ليقفوا على مسافة قريبة منه، ومن قصة (هوغو). لكن أقدار الأماكن تتشابه مع أقدار البشر عندما ينهدم أثر، ويموت إنسان.. فإذا ببطلة تلك الرواية أي (نوتردام) المعمرة على مدى القرون وهي تقاوم الزمن، وتصده بأحجارها، تحترق تحت أنظار العالم، وقد سرى خبر احتراقها عبر الفضائيات ببثها المباشر، ووكالات الأنباء بسرعة التهام النيران لذلك المعلم الأثري البارز، والأقدم في أوروبا، والذي يعتبر رمز فرنسا، ويتصدر قائمة اليونسكو للحفاظ على التراث العالمي باعتباره جوهرة الفن والمعمار (القوطي) حسبما يصفونه، ويصنفونه، وهو يضم بين جدرانه ثروة هائلة من إرث فني تراكم عبر أجيال، واختصر مساراً في سيرة التاريخ، وتجسد في التحف والكنوز الفنية، والهندسية، والتاريخية الفريدة من نوعها. حدث الحريق هذا كان سبباً لسرد تاريخ هذا المَعلم من جديد، وكأنه إحياء للذاكرة التي حفظته.. وها هي رواية (أحدب نوتردام) الشهيرة تنهض من قلب الاحتراق من جديد أيضاً لتتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً هذا الأسبوع نتيجة ما لحق بذلك الأثر التاريخي، في تأكيد على دور الأدب في مسار التاريخ.. ولو كان (فيكتور هوغو) ما يزال حياً لكانت هبطت عليه ثروة لم تكن في حسبانه. لقد اعتادت الأمم، والشعوب أن توثق ذاكرتها، وتاريخها في معمارها.. فالأحجار تتحدث، وهي تنطق، ولا تصمت طالما انتظمتها تلك الأبنية الأثرية.. أما الأدب، والفن فهما ذاكرة الإنسانية المتقدة على الدوام وهي تشع حرفاً، ولوناً. إرث البشرية هذا تحاول منظمة اليونسكو أن تصونه وهي تصنفه في قائمة التراث العالمي.. وكذلك هي آثار (نينوى) في بلاد الرافدين، وآثار (تدمر) في أرض الشام.. ذاكرة البشرية التي تم الاعتداء عليها عندما امتدت يد الشر لتهدم جزءاً منها، ومنا.. وهي في واقع الأمر لم تسحق الحجر بقدر ما فتحت فجوة في ذاكرة العالم لتُسقِط منها بعضاً من إرث إنساني عظيم لا ينتمي لأمة، أو بلد، أو قوم ما بقدر ما ينتمي للإنسانية جمعاء، وهو يشكل عتبة في سلم ارتقائها الحضاري، وتطورها.. فهذه الآثار ذات القيمة المعنوية، والرمزية هي ليس ملكا لأحد، وهي في الوقت ذاته ملك لكل أحد في الأسرة الإنسانية. وما دام للشواهد التاريخية دورها في حفظ الذاكرة الوطنية للشعوب فإن من حقها أن تعود للحياة بترميمها إذا ما أصابها العطب لسبب، أو لآخر.. لكن ما يصيبها من أذى، وكوارث كهدم أجزاء منها، أو احتراقها سيظل أثره كندبة على الوجه، فتاريخ الأشياء كما تاريخ الأشخاص إذ يترك آثاره عليها ليصبح جزءاً منها.. ولعل الأهم من الندبات هو استعادة روح المكان ذاتها بعد أن اجتُرحت.. فهل تراها ستعود لو رممت؟!.. سؤال يبقى برسم الترميم. و(إكليل الشوك) الذي نجا من حريق (نوتردام).. يدعونا لحشد الجهود لترميم ما تضرر من آثارنا العربية في هذه المرحلة المضطربة من تاريخ منطقتنا حتى لا تصلب أوابدنا.. وحتى لا نضع إكليل شوك جديدا فوق هاماتها.. وحتى يظل قارب الأدب حاضنا لإرثنا الإنساني. * * * |
|