|
ملحق ثقافي التي حاولت جميعها التعبير عن التحولات العميقة التي طرأت على الاقتصاد العالمي مع بداية الألفية الثالثة، وكانت تلك الدراسة أحد أهم الجهود المعبرة عن الثقافة الاقتصادية الجديدة وآفاق التحولات التي تبشر بها. واقتصاد المعرفة تعبير شائع وغامض استهلكته المؤسسات السياسية والاقتصادية والاعلامية في جميع أنحاء العالم كشعار جذاب لم يعبر في أغلب الأحيان عن فهم حقيقي للتحولات الكبرى التي أدت إلى نشوء علاقة وطيدة وجديدة بين الاقتصاد بمفهومه التقليدي وبين مختلف أنماط الانتاج الثقافي والمعرفي. أعادت الأزمات الاقتصادية التي اجتاحت العالم خلال السنوات الماضية طرح أسئلة كبرى حول الأوهام والأسس اللا عقلانية التي حكمت الاقتصاد العالمي خلال المراحل الأخيرة من تطوره واكتشف العالم في خضم هذه الأزمات أنه كان محكوماً بخرافات صنعتها وسوقتها مراكز قوى اقتصادية وثقافية أدت إلى تفريغ الاقتصاد من محتواه الانساني وحولته إلى فضاء شرس يفتقر إلى ثقافة الانتاج والتنمية. وكان غياب الثقافة عن الاقتصاد لصالح ديكتاتورية السوق التي اجتاحت العالم وأدت إلى نتائج كارثية على حياة الإنسان في جميع أنحاء العالم. وفيما يخص المجتمعات النامية والفقيرة كانت النتائج أكثر مأساوية وعنفاً بسبب غياب الاستثمار في المعرفة والثقافة، فكل ما يتفجر من أزمات واضطرابات في هذه المجتمعات يعود في جانب كبير منه إلى فشل مشاريع التنمية البشرية وإلى غياب مشاريع تنمية ثقافية حقيقية.
إن نظرة سريعة على واحدة من الدراسات العلمية التي تتناول ظاهرة التحول إلى إقتصاد المعرفة كافية لتبين ملامح عالمنا المعاصر من الناحية الاقتصادية. أجرى الدراسة الباحث الاقتصادي الدولي المعروف كيرك هاملتون عام 2005 لصالح مركز أبحاث البيئة التابع للبنك الدولي. يقسم هاملتون ثروات العالم الاقتصادية إلى نوعين، الأول هو الثروات المحسوسة التي تمتلك قواماً فيزيائياً-مادياً، و الثاني هو تلك الثروات الغير محسوسة التي لا تمتلك قواماً فيزيائياً-مادياً. ينضوي تحت النوع الأول الثروات الطبيعية من نفط و غيره، البنى التحتية من معامل و طرق و مدن و بنى معمارية و الإنتاج السلعي من آلات و غيرها. أما النوع الثاني فينضوي تحته ما يسميه هاملتون الرأسمال الإنساني الخام الذي يتكون من عدة ثروات هي: مقدار المهارات و التأهيل العلمي الذي يملكه مواطنو دولة ما، مستوى الثقة بين مجتمع ما و بين مؤسساته الرسمية و غير الرسمية و نوعية هذه المؤسسات، مستوى إلتزام الأفراد و المؤسسات في دولة ما بالقوانين و القضاء، مستوى فعالية النظام التعليمي في إنتاج كوادر وطنية ماهرة وحقوق الملكية الفكرية للكتب والابداعات الثقافية والاختراعات. و في إحصائيات موثقة يشير هاملتون إلى توزع هذه الثروات في الاقتصاد العالمي فيشير إلى الحقائق التالية: يشكل حجم الثروات الطبيعية في الاقتصاد العالمي المعاصر ما نسبته 5% و يشكل الإنتاج السلعي 18%، بينما تشكل الثروات الغير محسوسة الآنفة الذكر ما نسبته 77% من ثروات العالم. و تشير الدراسة إلى أن الثروات الطبيعية و المحسوسة تشكل 40% من إقتصاد الدول المتخلفة في أحسن الأحوال، بينما تشكل في الدول المتطورة و الأكثر غنى 20% فقط. أي أن 80% من ثروات الدول الأكثر غنى في العالم هي ثروات تتعلق بمهارات الإنسان و ثقافته و بفعالية النظام التعليمي الذي يؤهله. و هكذا فإن أي بلد يتمتع بنظام قضائي نزيه و بنظام تعليمي فعال و بسيادة ثقافة القانون سينتج – وفق هاملتون – إقتصاداً أكثر غنى. و على العكس، فإن أي إقتصاد تسود فيه ثقافة الفساد و يعاني من تخلف في مؤسساته التعليمية سينتج الفقر و التخلف مهما كانت ثرواته الطبيعية كبيرة. إن كل ما حدث من تحولات في العالم قد غير معايير الفقر والغنى التقليدية، فلم يعد على سبيل المثال توافر ثروات طبيعية كالنفط هو ما يحدد غنى أو فقر أمة ما، بل أن توافر ثقافة معاصرة وحية قادرة على التفاعل مع العالم هو وحده ما يصنع الثروات. وفي هذا السياق نشأ ما أصبح يعرف بالاقتصاد الأمي أو الأمية الاقتصادية، إنه ذلك الشكل المتخلف من الاقتصاد الذي يفتقر إلى المعرفة كرأسمال حقيقي وتغيب عنه الثقافة كوسيلة إنتاج وكثروة تتفوق في أهميتها على الثروات المادية. ولعل هذه الأمية التي لم تعد في الوقت الراهن مجرد ظاهرة ينتجها الواقع في مجتمعاتنا بل هي حالة قسرية تفرضها النخب السياسية والاقتصادية على المجتمعات بغية السيطرة على مواردها، لعل هذه الأمية هي أحد الأسباب الرئيسة في تهميش الإنسان وقهره بشكل وحشي بالقضاء على قابليات الإبداع فيه. وهنا يتجلى كم كانت علاقة مجتمعاتنا بالثقافة المعاصرة في عصر العولمة مأساوية بشكل يدعو للرثاء! لقد حولت السياسات الاقتصادية والثقافية الإنسان لدينا إلى مجرد سلعة في سوق مفتوحة وتحولت مع ذلك المؤسسات الثقافية الرسمية إلى مجرد أبنية وكائنات بيروقراطية أمية لا تستطيع سوى إعادة إنتاج الأزمات والمشاكل في عملها! وكأن وظيفة المؤسسات الثقافية أصبحت مقتصرة على دور وحيد هو التعبير عن واقع التداعي والرداءة والتخلف! أصبح مصطلح اقتصاد المعرفة متداولاً في كلام النخب الاقتصادية والثقافية والأكاديمية العربية. وكالعادة، وفد هذا المصطلح إلى كلامنا بشكل عشوائي وأصبح مشاعاً لكل من يريد التنظير في قضايا التنمية والتحديث حتى أصبح تعبيراً ضبابياً بالنسبة للجمهور العريض. ورغم التقصير الكبير في تعريف مصطلح إقتصاد المعرفة ورغم الشح في المصادر المرجعية حوله، إلا أنه من السهل أن نتلمس في كيفية استخدامه في مجتمعاتنا العربية عموماً مؤشراً يدل على غربة هذا المصطلح عن الثقافة السائدة. أن إقتصاد المعرفة في معناه الثقافي المتداول إعلامياً وجماهيرياً هو ذلك الاقتصاد الذي يعتمد في تخطيطه ونظرياته وبنيته وأهدافه ووسائل عمله على العلم والمعرفة. أي أنه الاقتصاد الذي يعتمد على التخطيط العلمي وعلى الكوادر المؤهلة علمياً. هو باختصار إقتصاد يقوم على المعرفة. هذا ما يمكن استخلاصه من مجمل الآراء غير المتخصصة التي تتناول الموضوع. وأول ما يمكن ملاحظته في الآراء المتداولة هو التطابق بين مفهومها عن «إقتصاد المعرفة» وبين المفهوم الذي تتبناه الصحافة العربية غير المختصة في معظمها. ولا يخفى هنا غياب الثقافة والانتاج الثقافي خصوصاً عن مكونات ذلك الاقتصاد الجديد في التداول العام. وحقيقة الأمر أن هذا المفهوم المتداول لا يعبر عن معنى مصطلح «إقتصاد المعرفة» بقدر ما يعبر عن تلك الغربة الحتمية لمصطلح كهذا في واقع مثقل بكوارث الطلاق بين الاقتصاد والمعرفة. إن ارتباط الاقتصاد بالمعرفة ليس أمراً جديداً في إقتصاديات الدول المتقدمة، فلقد كانت المعرفة جوهر الثورة الصناعية والعامل الرئيس في تطور المجتمعات الحديثة. لكن الجديد هو أن المعرفة أصبحت الآن أكثر من وسيلة وأكثر من أداة. لقد أصبحت ذاتها رأسمالاً يفوق في أهميته الثروات الطبيعية والسلع الصناعية في الإقتصاديات الكبرى. |
|