تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المسرح و هامشه

كتب
الأربعاء 28-3-2012
أنور محمد

بكثير من الألم والاستغراب وهو يتحدَّث عن تجربته المسرحية يصل د- رئيف كرم المسرحي اللبناني إلى أنَّ النقطة الصفر للشك تكمن في أن خمسة وعشرين عاماً من العمل الأكاديمي والاحترافي من المفترض أن تكون كافية لبلورة رؤية مسرحية ناضجة.

غير أنَّ ظروف العمل المادية والمعنوية خلال سنوات الحرب الطويلة والاجتياحات المتكررة(1975-1990) حرمت التجربة من أرضية استمرارها وتراكم خبراتها, ونثرتها كغيرها من تجارب الزملاء المسرحيين الجادة, علامات في نتاج متقطع, مضيئة حيناً, واعدة أحياناً, ومتعثرة أحياناً أخرى. وفي المحصلة تجربة عسيرة في حلاوتها ومرارتها لم تنل حقها من التقويم والانتشار.مع أنَّ المسرح الحديث في لبنان ومعظم البلدان العربية عموماً, قد تفتح واستقر في سياق صعود هذه التجارب في الستينيات رغم ولادته التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر مع مارون النقاش اللبناني. إذ إنَّه بين ولادة النقاش والستينيات ظهرت أعمال مسرحية متناثرة تركزت في مدارس الإرساليات الأجنبية المسيحية الطابع, ولا سيما الفرنسية منها نتيجة الانتداب الفرنسي على لبنان عقب الحرب العالمية الأولى, بالإضافة إلى أعمال أخرى متفرِّقة ومتباعدة لم تبلغ فورة الستينيات والسبعينيات نوعاً وكمية, هذه الفترة التي أسَّست المسرح الحديث في لبنان ولا سيما مع المخرجين منير أبو دبس وأنطوان ملتقى ومحمد شامل وبيرج فازليان وشكيب خوري وجلال خوري وعصام محفوظ وغيرهم, وفي الفولكلور مع الأخوين رحباني وفرقة كركلا وغيرهما.‏

في أواخر الخمسينيات نشأت مهرجانات بعلبك الذائعة الصيت عالمياً وأسَّست أوَّل محترف للمسرح الحديث, وأوَّل فرقة بقيادة المخرج منير أبو دبس أحد الرواد السالفي الذكر, وتلاه أنطوان ولطيفة ملتقى اللذان أسَّسا «حلقة المسرح اللبناني». هذان الرائدان وغيرهما عملوا على بلورة هذه المرحلة ترجمة واقتباساً من المسرح الغربي, نصوصاً وإخراجاً وتمثيلاً وتقنيات, جمعتها الكاتبة خالدة سعيد في كتابها«الحركة المسرحية في لبنان», وأنتجت أعمالاً وفرقاً ومخرجين وممثلين وغير ذلك من مهارات بنت نفسها بنفسها, واجتمعت وأسَّست قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية بمبادرة من المخرج أنطوان ملتقى, وبعض مراكز التدريب والمسارح الموسمية ومسرح دائم واحد خاص بأعمال الممثل شوشو. وقد تمكنت تلك المرحلة في السبعينيات من إحداث بداية نقلة نوعية للمسرح من مستوى الترجمة والاقتباس للمسرح الأوروبي (شكسبير,ستانسلافسكي, بريشت, يونسكو...إلخ) إلى مستوى الخلق المحلي النكهة في التمثيل والإخراج والكتابة, أمثال عصام محفوظ وشكيب خوري وريمون جبارة وروجيه عساف ونضال الأشقر ويعقوب الشدراوي والأخوين رحباني ومحمد شامل الذي أطلق العنان للغة الكوميديا الشعبية المحلية مع «شوشو» مؤسِّس المسرح الوطني أوَّل مسرح يومي دائم في لبنان وأبو سليم وغيره. إلا أنَّ هذه النقلة النوعية بقيت سجينة النموذج الأوروبي للمسرح في توجهاتها الثقافية النخبوية منها أو مسرح«الفودفيل» أو المسرح الغنائي.‏

ثمَّ يرى رئيف كرم أنَّه في أواسط السبعينيات بلغت الحركة المسرحية ذروة فورانها عشية الحرب, فقد اندلعت الرصاصة الأولى في ساحة الشهداء مركز بيروت التجاري وقلب بيروت وهمزة الوصل بين أحيائها وتجمعاتها السكنية المتنوعة الطوائف والانتماءات, بين بيروت وسائر المناطق اللبنانية أصابت الرصاصة الأولى هذه موقعاً مهماً لتجمع المسارح ومعهد الفنون الجميلة. ومع تصاعد الاشتباكات وعمليات الفرز المناطقي الطائفي ورسم خط التماس الرئيسي بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية وغيره من خطوط تماس فرعية, شلَّت الحرب معظم نشاطات الحركة المسرحية التي انتظرت طويلاً قبل أن تعود لتظهر في مواقع متفرِّقة منعزلة بعضها عن بعض أكثر الأحيان. دمرت الحرب البنى التحتية للمسرح من جمهور ومسارح قبل أن تنعم بالاستقرار, وأثبتت هشاشة الأرض التي قامت فوقها وانتعشت مثلها مثل لبنان كله. لكن وبعد أن وضعت الحرب أوزارها نسبياً في بداية التسعينيات واتضحت صورة لبنان مابعدها, وتناوب أمراء الحرب والمال والطوائف على نهشه وتخريب ماتبقى من مؤسِّسات رسمية وأهلية وضموها إلى سياساتهم وبرامجهم الفاسدة المتخلفة, كشفت صحوة السلم خواء الساحة الثقافية وعجز المبادرات الفردية للفئات المتوسطة التي انتعشت زمن الوفرة, وهامش الحرية في الحرب مثل حالنا وحال غيرنا من المسرحيين عن متابعة طريق زمن السلم المنقوص التضخم المالي والشح الذي أصابها بشكل أساسي.‏

بعد ذلك وبسخرية وتهكم يكشف رئيف كرم عن مرارته وألمه لما آل إليه المسرح بل الحال العربي فيقول: ما أكثر العرب اليوم ولكنَّهم مجبرون على تمثُّل الشبه كي لا يُشتبه فيهم: داخل كل منَّا مهرِّج يختبأ تحت ثيابه! رحلة الرئيس المصري إلى إسرائيل أحدثت المزق الأكبر في الثياب التي كانت تستر عوراتنا, وحوَّلت طقوسنا إلى مهازل مهرجين. ألم يحن الوقت الذي نملُّ فيه من طلَّةِ المهرِّجين الذين يختبئون خلف عجزنا وسيولة قابليتنا ومآسينا ويقومون بتأدية لعبة واقعية نفعية تستمطر بكاءنا أحياناً وضحكاتنا أحياناً أخرى, وفي الحالتين يوظِّفون لعبتهم في عملية ترويضنا وتطهيرنا وتغليف غربتنا بالأوهام. ألم يحن الوقت الذي يولد فيه للمهرِّج منبره المتّفق عليه خارج أمكنة وأزمنة وطقوس النفعية فيقوم الممثلون المتعارف عليهم كذلك بتأدية اللعبة الاعتباطية في حلاوتها ومرارتها, فتستوي سلطة»الخيال» بشكل ما في الطرف المقابل ل «خيال السلطة»؟.‏

المهرِّجون المحليون تمكَّنوا من ترويض المسرح كأداة دخيلة, وتمكَّنوا من إرساء بعض تقاليده ابتداءً بمصر وانتهاءً بالتفرعات العربية الأخرى. لقاء الناس بالمهرِّجين هو أقرب إلى طبيعة اللقاء في السوق المحلي:مركز عمليات التبادل النافعة:طقوس التبادل التجاري والحرفي. المهرِّج المحلي يلبي حاجة الناس إلى الضحك الساخر ولا سيما أولئك الذين يعيشون على فتات عمليات التبادل, النظام المدني العربي يقوم على محاذاة مراكز تبادل القيم للسوق, ولا سيما الدينية. التهريج في شكله المعروف عربياً ومحلياً (التنكيت, إثارة الغرائز..) لا يمكنه أن يتجاوز حدود التبادل السوقي: غلبة التنفيس العابر لذلك ما زال المسرح «عالة» ولا سيما الممثل, أما الممثلة فحدِّث عنها ولاحرج. هل يكون لنا يوماً مسرحاً يؤمُّهُ «المؤمنون» كما يؤمُّهُ الغارقون في دوامة السوق, فيسلط المرآة على الوجوه كافة وتدخله سائر الطقوس المدنية الدينية , فيضيف إلى محليته الضرورية جداً ديمومة القيم الأخرى وشموليتها؟ تلك مسألة من السابق لأوانه التنبؤ بها, ولكنها قد تكون الطريق الأكيد لإرساء تقاليد المسرح, إذا ما أثبتت الأيام الآتية أنه ضروري. فالمياه ملوثة والبئر سوداء وما أحوجنا إلى المرآة !.‏

‏

الناشر:دار الفارابي بالاشتراك مع وزارة الثقافة اللبنانية/بيروت.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية