|
اقتصاد
وكان من الملاحظات أن هذه الاحتجاجات والتظاهرات قد ازدادت وتائرها خلال العقد الأخير, انطلاقا من الادراك المسبق, أن الدول الغنية اعتادت وفي كل اجتماع تعقده على مساحة القارتين الأوروبية والأميركية, في اطلاق الوعود الرامية إلى محاربة الفقر العالمي ومعالجة ديون القارة الأفريقية وسواها من القضايا الأخرى. غير أن هذه الوعود ذاتها لا تلبث أن تتبدد وتذهب إلى دائرة النسيان لمجرد مغادرة المؤتمرين قاعات الاجتماعات وردهات الفنادق. والمجتمع الدولي والذي يقصد فيه الرأي العام وليس الحكومات الرسمية بات يعلم وبلغة المعلومات والأرقام , أنه كلما تواترت الوعود لمعالجة قضايا الفقر أو المجاعة أو البيئة أو ديون العالم الثالث, فإن ما يحصل هو أن هذه القضايا تزداد تعقيدا وتتسع مساحتها أكثر من قبل. ففي حال التوقف عند مشكلة الديون حصرا, سوف نلحظ أنه ومنذ بداياتها قامت على مفهوم المكائد الاقتصادية التي تحيكها الدول الغنية في مواجهة الدول الفقيرة, وفي حال العودة إلى العقد الأخير من القرن الماضي سوف نلحظ أن أزمة الديون الخارجية لدول العالم الثالث تعود في بعض أسبابها اما إلى الثورة التكنولوجية التي شهدها الغرب بين أوائل الستينيات ومطلع السبعينيات , أو إلى الطفرة النفطية التي وفرت للدول المنتجة والمصدرة للنفط فوائض نقدية هائلة تتجاوز احتياجاتها الاقتصادية الفعلية, وعلى الأرجح أن السبب الأخير كان قد لعب دورا مباشرا وأكثر فاعلية في مفاقمة مشكلة الديون, ذلك أن الدول النفطية كانت قد أودعت قسما كبيرا من فوائضها النقدية في البنوك والمصارف الكبرى, التي أصبحت تتنافس فيما بينها بحثا عن الذين يرغبون بالاقتراض وبتسهيلات تنافسية ملحوظة وصلت إلى حدود منح دول أميركية لاتينية مثل البرازيل قروضا بفائدة هي ربع الفائدة المفروضة على قروض مشابهة ممنوحة لأوروبا الغربية مثلا. والمعروف أنه في تلك الفترة كان الاقتصاد العالمي يمر بفترة ازدهار, وهذه الفترة كان من سماتها زيادة الطلب من جانب الدول الصناعية على المواد الأولية المنجمية والزراعية المتوفرة عند دول الجنوب, الأمر الذي وفر لهذه الدول عائدات أكبر من صادراتها, فانجرفت حكوماتها وراء خطط تنموية تتجاوز قدراتها وحاجاتها الاقتصادية, وانصرفت إلى إقامة مشروعات تحتاج إلى ميزانيات ضخمة دون أن يكون ذلك ضمن إطار خطة اقتصادية متكاملة ومتوازنة, وهذا ما حول تلك الخطط التنموية إلى عبارة عن كوابيس , ففي العقد الأخير من القرن الماضي, بدأت ملامح الركود تظهر على الاقتصاد العالمي. ما سبب انخفاضا في أسعار المواد الأولية الخام, وذلك كنتيجة مباشرة لانخفاض الطلب عليها, وهذا ما أحدث شرخا بين الواقع الاقتصادي بحقائقه غير المعلنة, وبين الحسابات الفعلية, فبدأت بوادر الديون بالظهور, إما على شكل عجز بعض الدول المديونة عن تلبية مستحقات خدمة ديونها, فكان أن أخذت الفوائد بالتراكم بوتيرة تصاعدية, وإما على شكل خدمة بعض الدول لمستحقات ديونها, الأمر الذي كان يؤدي إلى إيقاع هذه الدول في عجز كانت تعمد إلى سداده عن طريق ديون جديدة,وأدق مثال على ذلك القارة الأفريقية التي تصل فاتورة ديونها اليوم نحو 350 مليار دولار, إلى جانب تسديد فاتورة أخرى تصل إلى حدود 39 مليار دولار وذلك كفوائد سنوية على هذه الديون, ولعل قمة دول الثماني الأخيرة التي عقد في اسكوتلندا كانت قد تباهت كثيرا وملأت الدنيا ضجيجا وصخبا فقط لأنها منحت دول هذه القارة مساعدات تصل إلى حدود 50 مليار دولار وهذا الرقم الأخير هو ذاته قريب من فوائد ديون القارة السوداء, ما يعني أن المراوحة في المكان هي العنوان الأبرز وليس هناك ما يشير إلى حدوث صحوة تجاه الفقراء مثلما حاولت هذه البلدان تصوير الأمر. وما دام أن هذه الديون قائمة فذلك يعني أنها أصبحت بمثابة المصيدة أو البقرة الحلوب لجهة دول الشمال الصناعي. ففي الوقت الذي كان يفترض أن تكون تلك الديون قد ترتبت ضمن خطط ودراسات توصيات من جانب صندوق النقد والبنك الدوليين, للنهوض باقتصادات الدول النامية, كان من الملاحظ مع تعاقب السنين, بأن لاشيء تبدل, وعجلة الاقتصاد تعود إلى الخلف, فالأجيال تودع الأجيال لتورثها المزيد من الفقر والتخلف والمزيد من الديون وتراجع الأوضاع الصحية. لو كانت الدول الغنية جادة فعلا في إزاحة كابوس الديون عن سماء الدول الفقيرة, لأمكنها الأمر وعلى أقل تقدير العمل على شطب ما كان قد ترتب على هذه الديون من فوائد مركبة, فحسب بعض الأرقام, فإن الدول ال¯ 15 الأكثر مديونية في العالم, يبلغ مجموع ديونها ما يزيد على ال¯ 1000 مليار دولار, وتدفع سنويا ما يزيد على 70 مليار دولار كخدمة فوائد لديونها ,أما مجموع ديون الدول النامية فيصل إلى نحو 2000 مليار دولار, علما أن هذه الديون لم تكن تصل ولغاية عام 1995 أكثر من 700 مليار دولار, وهذا يعني أنها قفزت إلى نحو ضعف ونصف خلال عقد من الزمن, وتضاعف هذا الرقم جاء أساسا من خدمة الديون وليس من ديون جديدة. والسعي الفعلي وليس اللفظي من جانب قمة الثماني الأخيرة, من أجل خفض ديون الدول الفقيرة, هذا السعي لو كان فعليا, فإنه كان يتعين العمل على صوغ الخطط والبرامج التي تساعد على إحداث المشروعات التنموية ودون فرض اشتراطات مسبقة على هذه الدول للمضي باتجاه سياسات محددة, هذا إلى جانب التوقف عن المطالبة بفوائد الديون المتراكمة, فعلى سبيل المثال لا الحصر, هناك اليوم من يقول من الاقتصاديين, أنه فيما لو مضت القارة الأفريقية على طريق سياسات التقشف الصارمة , فإنها ستتمكن من تحقيق نمو اقتصادي يصل إلى حدود توفير نحو 40 مليار دولار سنويا ومثل هذا الكلام الذي يبدو بريئا يشير في ظاهره إلى امكان تنشيط الواقع الاقتصادي لهذه البلدان, غير أن هذا الحل نفسه لن يجدي نفعا, لأن ما هو مطلوب من الدول الافريقية تسديد ذات المبلغ سنويا, وضمن هذا المعنى ليست هناك إمكانية لتنشيط الواقع الاقتصادي, ذلك أن ما سيتم توفيره سيذهب مباشرة إلى جيوب الدائنين. وفي كل الأحوال, فإن إدارة مديونية الدول الفقيرة, مازالت تأخذ في اللعبة القديمة التي دأبت الدول الرأسمالية على اعتمادها حفاظا على آلية استنزافها لموارد الدول النامية , فإذا كانت الدول الكبرى قد لجأت في الماضي إلى عملية الاستغلال المباشر لهذه الموارد, سواء عن طريق مستعمراتها أو شركاتها الاحتكارية متعددة الجنسية, فإنها وبعد انقضاء الزمن الاستعماري تبوبه القديم, اتجهت إلى استخدام سلاح الديون باعتباره الأفضل والأقل كلفة لإبقاء الدول النامية في حدود الدور المرسوم اقتصاديا وسياسيا وذلك حسب موقع كل دولة ومكانتها في خدمة الدول الغنية. marwanj ">@ureach.com |
|