|
دراسات وتحديداً لخصوصيتها -التي تعكس بالمحصلة خصوصية الشخصية للأمة, والوطن -استند العقل ذاته إلى إناء الزمان: الماضي, والحاضر, والمستقبل طالما أنه من غير الممكن أن يستبعد عنصر من عناصر الزمان ويأتي الخلق الثقافي متوائماً مع مهام الإنسان في صناعة الحاضر الممتدة آفاقه نحو المستقبل, فالثقافة تراكم, والمجتمع سيرورة وصيرورة. ومما هو موغل في القدم نجد أن الفلسفة, والعلوم, والآداب, والفنون, والعقائد اشتملها مصطلح الثقافة كما اشتملت عليه لتتكون معه عبر منحى وصفي يتمثل بأنماط السلوك المعنوي, والمادي السائدة لدى شعب من الشعوب كما حدد لها المفكر القومي عبد الله عبد الدايم..ومن ثم كما رآها المفكر العربي عبد المنعم الصاوي بأنها حصيلة ما يتجمع في العقل من معارف, وما يكمن في الوجدان من انطباعات, وما يستقر في الضمير من عقائد, وما يترسب في النفس من عادات وتقاليد, وإذا كانت الحضارة هي المظهر المادي للثقافة, فالثقافة هي المظهر العقلي للحضارة. وتأسيساً على هذه القاعدة فالمثقفون -كأهم عامل في الحامل الاجتماعي للثقافة -ومنذ أن ظهر مصطلح المثقف على يدي المفكر الفرنسي سان سيمون عام 1821(1) يمثلون طاقة الأمة التي تجسد وعيها المعرفي, وتنتجه, وتطوره, وتعيد إنتاجه وفق استهدافات المبادىء الوطنية, والقيم الخصوصية, والهوية والشخصية التاريخية للأمة. وعليه فالناتج الثقافي -بكل معاييره -هو الصورة الجديدة التي أصبحت عليها الأمة, والتنمية البشرية , والاقتصادية لا تتأتى على نحوها الصحيح إلا في الحين الذي يصبح فيه العلم ثقافة كما يقول محمد عابد الجابري المفكر المغربي, إذ برأيه أن التخلف يمكن أن ينظر إليه من زاوية العلم المنفصل عن الثقافة, أو الثقافة المنفصلة عن العلم. وفي بواعث التفكير السياسي في القرن العشرين شاهدنا تركيزاً كبيراً على الأسس الاقتصادية في التغير, والتغير على صعيدي الدولة, والمجتمع هذا التركيز هدفيته انصبت على أن الحاسم في النقلة التاريخية -عبر قوانين التضاد, والتراكم, والتحول -هو الشروط الاقتصادية السياسية التي يحياها المجتمع, والأمة. وتتحدد وفقها طبيعة العلاقة بين القوى المنتجة, وعلاقات الإنتاج فالثورة -وفق هذه الفلسفة -صائرة في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين العاملين الآنفين, ثم يؤول الحال إلى تطابقهما بعد قيامها من وجهة نظر الماركسية. وفي العقد الأخير من القرن ذاته اتضح أن سياق التطور العالمي المستحدث عبر ظاهرة المتغيرات الدولية, ومفرزاتها على صعيد عولمة العالم بالنموذج الغربي المخصص أمريكياً, حصر التركيز التأثيري فيه على إمكانية اختراق العقل, والهوية والخصوصية تمهيداً لقلقلة مفاهيم: الوطن, والجغرافيا, والتاريخ, والسيادة, وجعل فضاء العقل الأممي متسعاً لاستقبال الوافد المعاييري, والقيمي الجديد المدعي بأن لاهدف له سوى المزيد من تواصل الأمم واتصالها, واندماجها, واعتمادها المتبادل في سبيل كوكبية جديدة تفضي إلى وجود التعايش الإنساني الكامل في القرية الكونية الصغيرة. فالصورة التي كانت الليبرالية الجديدة قد قدمتها لتسوغ فيها المتغيرات الدولية شددت على الحرية, وحقوق الإنسان والديمقراطية, وتحسين الحياة الدولية عبر التسامح, وحوار الثقافات, وإنهاء بؤر التوتر العالمي والحروب, وما يقدم اليوم في سياق تسويغ عولمة النظام الأممي بالنموذج المخصص أمريكياً يوضح أن العالم سوف يتحول إلى وحدة حضارية على أساس عقيدة السوق الحرة بما في ذلك من فتح للحدود, وإطلاق للمنافسة المنتجة, ومن تعميم للقيم الجديدة, ومن سيولة للمعلومات, ومن إعادة تأهيل للعادات, وأنماط السلوك, وأساليب العيش ومن إنهاء للنظم الحمائية أمام الاقتصاد التكنولوجي العالمي القائم على تحرير الاقتصاد, والتجارة العالمية. فالروافع الجديدة للنظام العولمي الجديد تحدد: سياسياً بالتبشير بفكرة تجديد العالم, واقتصادياً تبشر بعالم يسوده الرفاه, واجتماعياً تبشر بمجتمع التعددية , والحرية, وثقافياً تبشر باستبدال الأيديولوجي بالثقافي, وجعل المرونة السياسية هي البديل عن العقائد الجامدة. ومن المعلوم أن ثورة الحداثة التي أنجزتها الليبرالية الغربية عبر القرن العشرين, واعتمدت فيها على العقل الموضوعي التنويري, تعقبها الآن ثورة يسمونها ما بعد الحداثة تعتمد على العقل الوسائلي, الوظائفي بمنطق, وفلسفة براغماتيين. وما أنجزه العقل الموضوعي اعتمد على ظاهرة العالمية بما فيها من اتصال الأمم, وتأثيرها المتبادل, وميراثها المشترك, أما ما تتوجه ثورة ما بعد الحداثة نحوه هو ظاهرة العولمة التي تلغي -بادىء ذي بدء -منطق العالمية القائم على التفاعل والتلاقح الأممي لتفرض صورة النمط المحدد الأمريكي, وتزيح من اللوحة العالمية خارطة المحلية, والخصوصية, والهوية والشخصية. مستبدلة هذه الملامح الوطنية بمشهد عولمي يريد أن يجعل الكوكب الأرضي على صورة واحدة هي صورة القطب الوحيد المهيمن. إن الليبرالية الغربية الجديدة -بثقل قطبها الوحيد المهيمن -تسعى إلى تغيير العالم الراهن وهو في عتبة الألفية الثالثة معتمدة على الضغط الإعلامي الغزير , والمؤثر في الرأي العام الدولي كمظهر عقلي لشعوب الأرض. وتقدم أطروحاتها الثقافية التي تريدها شكلاً بديلاً, ومقاوماً للمنطق الذي ساد عبر القرن الماضي, منطق النظريات الأيديولوجية السياسية. وفي هذا السياق تعلن عن انتهاء الأيديولوجي, وبدء المنافسة الثقافية الحضارية. ونهاية القومي , وبدء المنافسة الكونية العولمية. ونهاية المركزي, والشمولي, وبدء تعميم التنوعي والتعددي. ونهاية التاريخ بوصول العالم إلى نظام واحد(2), ومجتمع واحد ونهاية التفاعل العالمي. وسيادة صراع الحضارات فالحياة للحضارات الأقوى, والأقدر على المنافسة, والديمومة(3). ومن أجل أن يستتب الحال لليبرالية الجديدة, وتسيد نظامها العولمي على كافة الصعد تبدو منشغلة بمعالجة مستجدات ذات بال تستدعي أن ترصد لها الحلول... في طليعتها -كما يرى الباحث الأمريكي ريفكين -أن مجتمع العولمة القادم هو مجتمع الخمس, وديكتاتورية السوق الحرة... أي إن الخمس من الشعب هم المنتجون الحقيقيون, والبطالة -بنوعيها -سوف تصبح بحدود 80% من السكان. والسوق الحرة عقيدة الجميع, وكل سياسة لابد أن تنطلق من مصلحة السوق لا من مصلحة الدولة ووظائفها الاجتماعية التقليدية بما في ذلك خدمة التعليم, والصحة, والضمان الاجتماعي.إن هذه الخدمات تصبح أعباء لا تطاق على كاهل الدولة, ويجب تخفيف الدعم المعمول به إزاءها, وفي مثل هذا الرأي مقاومة واضحة لاقتصاد السوق الاجتماعي, الذي تجد سورية بأنه يمكن أن يكون الحل الأسلم في التطور المأمول للنظام الاجتماعي والسياسي. ويرى المفكر جاك أتالي أن المجتمع -في ظل العولمة- أصبح يقوم على الظرفية, لا على القيم الاجتماعية المعروفة وهذا يعني أنه سوف تتكسر القيم التقليدية لعلاقة الفرد بالفرد, أو المواطن بالمواطن, أو المواطن بالمجتمع, والدولة. وينظر إلفين توفلر الى أن مبدأ الأغلبية قد لا يبقى المرتكز الأساس لمفهوم الشرعية أو قد لا يبقى بالضرورة مبدأ الشرعية الديمقراطية ويدعو الى سلطة النخب, واجداً أن سلطة النخب هي الأقدر على الإبداع والتطور, والتطوير, والسيطرة على الحكم, وصناعة القرار... وهذا يعني أن الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين ربما تتطور الى ديمقراطية الأقلية النخبوية. كذلك -عبر التقسيم الدقيق للعمل الدولي- وما حدث من إعادة تشكيل للقوى المؤثرة في النمو العام من أمثال: ( رجال الإدارة العليا, وأصحاب الأسهم والسندات, وعمال المعرفة الاختصاصيون اختصاصات دقيقة) إن هؤلاء يصبحون الطبقة ذات التأثير الحاسم في المجرى العام, وهم معنيون بإعادة هندسة الوظائف, والإجابة على نظرية تساقط الآثار, وانعكاس النتائج لحالة البطالة القادمة التي ستتأتى عبر السيادة الكاملة لثورة المعلوماتية, والتقانة. وهكذا فالتغيرات الهائلة على صعيد ثورات التقانة, والمعلوماتية, والانتقال , والاتصال, والإعلام التي حققتها وتحققها الليبرالية الجديدة أصبحت -بدون شك - تغير بقواعد حراك العالم المعاصر وتقود ذلك الثورة العلمية التكنولوجية التي استحدثت تغيرات هائلة في بنية الاقتصاد الإلكتروني الدولي, وبدورها ستغير في البنية الاجتماعية, والبنية الثقافية, وما طرح المشاريع الكونية ( الشرق الأوسط الكبير), أو الإقليمية (الشرق الأوسط الجديد) إلا تجليات لمثل هذه النظريات الجديدة في الهيمنة على العالم, كما تريد أمريكا القطب الوحيد الإمبراطوري. وحسب نظرية المفكر السياسي هنتغنتون: إن الثقافة هي المسبب الأكبر للانقسامات, والصراعات بين الشعوب, وعليه فمطلوب من الليبرالية الجديدة تعميم الثقافة الواحدة التي لن تكون سوى ثقافة السوق الحرة المستندة الى تعظيم المذهب الفردي: أي إن الفرد يوجد بذاته ولذاته, ويعمل من أجلها ولا حاجة للتنظيم الاجتماعي, وكأن في الأمر دعوة للعودة الى حالة الانتظام الاجتماعي القديمة التي سادت في التاريخ القديم للبشرية,ورفض القيم التنظيمية التي شاعت مع انتصار ثورة الحداثة, وما رافقها من بنية جديدة في الانتظام الاجتماعي بروح الدولة. وكذلك تقدم الليبرالية الجديدة أطروحات ثقافية تريد أن تؤسس الوعي العالمي على قواعدها تلك التي تحض على قيم الحياد الاجتماعي, والخلاص الفردي, والاقتناع بسقط الحضارات, ونهاية الصراع الاجتماعي. والاعتقاد أن الطبيعة البشرية لن تتغير , وأن قيم الإنتاج خاصة بالأمم المنتجة, وقيم الاستهلاك خاصة بالأمم المستهلكة, ولا يجوز -بأي حال- أن تردم الفجوة التكنولوجية بين شمال, وجنوب في الأرض, أو شرق وغرب بل على المستهلكين أن يقبلوا بأنهم لن يصلوا الى وضع منافس كما يحلمون, وعليهم أن يرتضوا بوضعهم كمستهلكين فقط. وبالمحصلة لقد أصبحت البشرية- ولا سيما بعد الحدث الأمريكي في الحادي عشر من أيلول 2001 - تشهد طغيان القرار الدولي المتخذ من القطبية الأمريكية المهيمنة حتى على مؤسسات الشرعية الدولية. ولذلك يستدعي الحال أن تفكر شعوب الأرض بأشكال المواجهة المطلوبة لهذا السلوك الأمريكي المنفرد, والذي حسم المعادلة الدولية بين إما أن تكون شعوب الأرض ودولها الوطنية مع أمريكا تحت لافتة مكافحة الإرهاب غير المحدد بمفهوم عادل وصريح, أو تكون ضد أمريكا وتتحمل تبعة الضد,والعقوبات المزمعة بحقه. هذه النقلة التي تفرضها أمريكا تحت لافتة مكافحتها للإرهاب الدولي تعطي المشروعية لأمم الأرض -ولا سيما نحن العرب- بأن نحدث مقاربة بين مهمات الثقافي, والسياسي وصولاً الى وحدة الاستراتيجية الخلاصية فالثقافة تقدم الفلسفة والتصورات البرنامجية للسياسة, والسياسة تفتح أمام الثقافة مجالات التحصين, والتأصيل فتخرج الأمة العربية من خضم الصراعات, والتحديات ولا سيما الصراع العربي- الصهيوني, معافاة حاملة هويتها, وعزمها, وقادرة على استئناف التواصل الثقافي بانفتاح مستنير, ودور حضاري فيه قوة المواصلة العربية وقيمها من غابر التاريخ حتى يوم الناس هذا . 1- راجع قاموس المثقفين الفرنسيين, عن كتاب ثقوب الغربال محمد المشنوق ص 83 2- فوكوياما : مفكر أمريكي من أصل ياباني له مقولة : نهاية التاريخ بوصول العالم إلى النظام الواحد الرأسمالي وعقيدة السوق الحرة. 3- صموئيل هنتغ نتون: مفكر أمريكي له مقولة صراع الحضارات لا حوارها, Fayezez@scs-net.org ">وتعاونها. Fayezez@scs-net.org |
|