تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفراغ وقدرات الفرد الخلاَّقة

ملحق ثقافي
2012/11/27
حسين محي الدين سباهي-وقت الفراغ يشغل أحد الركائز الرئيسية، بل أحد الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي يعاني منها المجتمع. والحضارة المعاصرة في صيرورتها المتعاظمة، بفضل مصادر تطورها الداخلية، قد أفرزت ظاهرة تدعى «وقت الفراغ» التي

سرعان ما وصمت هذه الحضارة بطابعها، وجعلتها تعبيراً عنها بحيث باتت تدعى اليوم بحضارة «وقت الفراغ».‏

وتشير الوقائع إلى أن ظاهرة «وقت الفراغ» ملازمة لوجود الثقافة في المجتمع، سواء كانت الثقافة قديمة أو حديثة، لكن الذي أعطى هذه الظاهرة بُعدها وانتشارها هو تلك السِّمة التي تميز الحضارة المعاصرة والمتمثلة في إنقاص يوم العمل وأسبوعه وإنشاء نظام الإجازات المأجورة التي خلقت مزيداً من ساعات الفراغ عند أفراد المجتمع.‏

وظاهرة الفراغ كما يقول عنها الدكتور كامل عمران تعد في مفهومها من أكثر الظواهر غموضاً وإبهاماً وتفرض على علم الاجتماع أن يدرسها دراسة شاملة، فقد قام تورستاين فيبلن منذ أوائل القرن العشرين بدراسة هذه الظاهرة وتحليلها، ولكنها لم تعرف الانتشار إلا مع تنامي البحوث الاختيارية وازدهارها بدءاً من عام 1930 فهذا روزنميز يؤكد أن وقت الفراغ فاعلية يُبرز فيها الفرد سائر قدراته الخلاقة.‏

أما ماكس كابلان فيرى أنه إنما هو في أفضل معنى من معاني الجد، ما يتيح للفرد أن يتجدد وأن يعرف ذاته وأن يتكامل، أما فيليبكوفا فقد عرَّف وقت الفراغ أنه اختيار حر بصورة نسبية، غايته الفرد ذاته. ويضيف الدكتور عمران: من هذه التعاريف يتبين أن وقت الفراغ اختيار حر نسبياً يقوم به الفرد دون أي التزام مقيد، كما أنه فاعلية تبرز قدرات الفرد الخلاَّقة، وليس ثمة نشاط ضائع لا معنى له.. وتسمح هذه الفعالية بمعرفة ذات الفرد، معرفة تؤدي إلى تحديد الذات وتكاملها.‏

ويقترح الباحث الفرنسي دوما زيديه في محاولة لتحديد أبعاد هذه الظاهرة أربعة مقاييس:‏

الطابع التحرري: ويعني أن وقت الفراغ تحرير من بعض الالتزامات واختيار بعض الفعاليات. أي تحرير الفرد في ساعات محددة من بعض الأنشطة التي يجب القيام بها سواء اختارها أم لا. لينقله إلى أنشطة جديدة يختارها بملء إرادته وحريته.‏

الطابع المجاني: وهذا يعني أن وقت الفراغ لا يكون في خدمة أي هدف مادي أو اجتماعي، حتى عندما تضغط عليه الحتميات الاجتماعية، ولمّا كان وقت الفراغ يقابل وقت العمل، فإن وقت العمل يحيل وقت الفراغ إلى نشاط مجاني. وبالتالي دون فائدة مادية تذكر. لكن هذا الرأي لا يعتقد به إلا الفرد المنعزل عن العالم، لأنه من المتعذر ألا يكون لوقت الفراغ هدف مادي أو اجتماعي.‏

طابع المتعة: وهو أن وقت الفراغ يقترن دوماً بالبحث عن السرور والمتعة أو البحث عن حالة من حالات الرضا، وهو ما يقود المرء إلى وقت الفراغ.‏

الطابع الشخصي: حيث يرتبط وقت الفراغ مباشرة بالدفاع عن كمال الوجود الإنساني، ويتيح تحرر الفرد من الملل اليومي وهو مرتبط بتحقيق الإنسان الكلي. حيث يولّد نمط الحياة المعاصرة مللاً يومياً يتوق الإنسان للتحرر منه.‏

ويتابع الدكتور كامل عمران: يتصف التجلي التاريخي لوقت الفراغ في حضارتنا بصورة مؤكدة بأنه نوعي ويتخذ هذا التجلي صورة زمن محرر بالتقابل مع زمن العمل، إنه أحد مظاهر صلة الإنتاج الحديث الأساسية بالعمل المأجور، فهو يشارك بتناقض رأس المال والعمل. ويملك إذن طبيعة متناقضة، فوقت الفراغ ليس الزمن المحرر من الزمن الحر بالضرورة، والتمييز بين الحدّين الذي يعتزمه فريدمان يبقى ضبابياً ولو ظهر مفيداً جداً، وسبب ذلك على وجه الدقة هو الطبيعة المتناقضة، طبيعة أوقات الفراغ التي تحرر وتستعبد، تهدم النظام الاجتماعي، وتعيد إنتاجه، شأنها في ذلك شأن العمل. وبالمقابل لا يساعد بالضرورة الازدياد الكبير في مدة الأعمال اليومية في أيامنا هذه على إرضاء حاجات المتعة عندما يستعمل في الانتقال من مكان العمل، أو يستعمل في المساعي البيروقراطية المتنوعة. بل إن هذا مرضاً اجتماعياً يزداد خطورة، فلا يمكن أن نفهم ظاهرة وقت الفراغ إلاّ بالنسبة إلى الصورة التي يتخذها العمل، أي بصورة أكثر دِقَّة بالنسبة إلى صلات الإنتاج في مجتمع معين من المجتمعات.‏

الشباب وأوقات الفراغ‏

الفراغ وحش يتربص بأفراد المجتمع وفي مقدمتهم الشباب لأنهم يمثلون الجانب الأكثر التصاقاً بالواقع وعلى عاتقهم تقع مسؤولية التغيير والبناء، فهو أداة التحول التنموي والاجتماعي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وعندما يصيب الفراغ الشباب فإن ذلك يبشر ببدء تخلخل البنيان الأساسية في بناء المجتمع الأمر الذي يرتب على المعنيين والمهتمين ضرورة التصدي لهذا المرض الاجتماعي الخطير، وتجنيب المجتمع مخاطر الفساد. فكما ذكرنا في البداية إن مستقبل الحياة يقوم على الشباب، وكذلك بناء الدول كما ذكر ابن خلدون في مقدمته. ولهذا لابدَّ لنا أن نقف على أسباب الفراغ في بداية معالجتنا للظاهرة، فللفراغ أسباب كثيرة منها ما هو ذاتي يعبِّر عن نزعة ذاتية لدى بعض الشباب في التخلص من روتين الحياة وقسوتها فيلجؤون إلى الهروب الخيالي أو التعويض بالتمرد على أشكال الحياة الجديدة والانصراف إلى ما يوفر لهم المتع الذاتية، مستسهلين الطريق خصوصاً إذا توافرت لهؤلاء الشباب عوامل المتعة وأسبابها من مال وجاه وغير ذلك، فيكون المناخ ملائماً لتحول الشباب من عناصر فعَّالة في بناء المجتمع إلى عناصر تعيش على هامش المجتمع فتخرج من عملية البناء، وربما تتحول إلى الجانب الهدَّام.. فالشعور بالملل على سبيل المثال جراء تكرار مفردات الحياة اليومية دون جديد يذكر، قد يخلق لدى الإنسان حالة من الرفض الذاتي لهذا الواقع، فيسقط في يده وخصوصاً إذا افتقد الشباب إرادة العمل والتغيير فينصرفون إلى الاتجاه المعاكس، ويصبحون عالة على المجتمع.‏

كذلك فإن هناك دافعاً اقتصادياً يجعل الفراغ ينتشر في صفوف الشباب، وذلك لانعدام فرص العمل البناء الذي يبحث الشباب من خلاله عن هويتهم الاجتماعية، فلا يجدونها، لأن كل إنسان تتحكم فيه نوازع العمل والإنتاج، فيصبح الفراغ أحد أهم المشكلات التي يواجهونها، وإذا فشلوا في الوصول إلى عمل مقنع يوفر لديهم الراحة الذاتية، أو المكانة التي يجدون أنفسهم من خلالها، فإنهم سيتحولون إلى الانحراف والفساد طريقاً للتعبير عن رفضهم وتمردهم على الظروف الصعبة التي يعيشونها.‏

أما الحالة الثالثة فتتمثل في فشل الشباب في أخذ فرصتهم في التعليم والعمل وبالتالي يعيشون غربة صعبة في بيئتهم الاجتماعية، فيبدأ الروتين يشمل معظم مراحل حياتهم ما ينعكس على نظرتهم للمستقبل فيقعون أسرى الفراغ.‏

فالشباب كما هو متفق عليه لا يمثلون طبقة وإنما هم شريحة عمريه غير متجانسة موزعة على مختلف طبقات المجتمع، غير منفصلة عن المرحلة التي سبقتها، ولا هي منفصلة عن المرحلة التي تليها، لكنها تتميز عنها بتطلعاتها ونظرتها إلى الكون واعتمادها على الذات ووعيها للأمور العامة وقدرتها على التأثير ورغبتها في التغيير، لكن هذه القدرات لا تتحقق بصورة عفوية، أو مجرد بلوغ عمر الشباب لا يزود المرء بصورة تلقائية بهذه الصفات، بل لا بد من تنشئة الشاب تنشئة سليمة ومركَّزة وتكوينه تكويناً علمياً يتماشى مع ما تتطلبه التطورات الفنية التكنولوجية الحديثة، تكويناً يُمكِّنه من مواجهة تحديات العصر بثقة وثبات، وتتدخل بهذه التنشئة عوامل عديدة من أبرزها التعليم.‏

فالشاب يمرّ بمرحلة عمريه يحاول فيها إيجاد إجابات عن تساؤلات متعددة عن الوجود والذات و المُثُل والأخلاق، يحتاجها لتأكيد ذاته وترسيخ كيانه ولمَّا كانت المدرسة لا تشبع حاجات الشباب بحكم كثافة منهاجها، والجامعة لا تلبيها بسبب نقص أساتذتها أو بتعبير آخر حسب أعداد طلابها: كان لا بد للشباب أن يلجأ لمصادر أخرى للإجابة عن تساؤلاته، وقد يجره هذا إلى تبني اتجاهات غير سليمة، ويؤدي إلى تذبذب شخصيته وتبديد جهوده. لذلك لا بد من وجود الأخصائي الاجتماعي في المدرسة الثانوية ضرورة لمساعدة الطلاب على حل مشكلاتهم والإجابة عن تساؤلاتهم، كما أن جهود المراكز التعليمية والثقافية والإعلامية ذات أثر بليغ في هذا المجال وذلك من خلال قيامها بالأنشطة الثقافية المختلفة.‏

فتكوين الشباب لا يتم داخل المدرسة أو الجامعة فقط، فهناك وسائل الإعلام المختلفة ومؤثرات البيئة الاجتماعية بما تملكه من قوة في المحتوى وجاذبية في العرض، كلها يجب أن تخضع لرقابة واعية حتى تكون توجهاتها نحو تكوين فكر علمي للشباب.‏

ماذا عن الحـلول؟‏

بعد دراستنا للجوانب المتعددة للمشكلة لا بد من التوقف قليلاً وسؤال أنفسنا ماذا فعلنا كي نجنب الشباب مغبَّة السقوط في متاهات الفراغ وما يمكن أن يتركه هذا المرض الاجتماعي من ظلال على نفوس الشباب وبالتالي على مجتمعنا بشكل عام؟‏

علينا أن نقف عند طاقات الشباب وحدودها.. وحين نقول إن الصراع على الشباب أكيد لكسب أفئدتهم وعقولهم فهذا هو الصراع الحقيقي اليوم. كلما كانت المراكز التعليمية والثقافية قادرة على مسك وتحصين عقول شبابنا، كانت المسألة تحسم لصالح المجتمع أكثر، وكانت النجاحات على هذا الصعيد أكبر. إذاً هناك ولا شك جهود مشكورة لاستيعاب طاقات الشباب وزجهم في عملية بناء المجتمع من خلال إدراكنا الواعي لأهمية هذا القطاع، والمطلوب أن تتضافر جهود الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية بأَسْرِها، مع جهود المؤسسات الإعلامية والجامعات وجهود الباحثين من أجل مناقشة مشكلات الشباب وفي مقدمتها التخلص من مشكلة أوقات الفراغ كي لا يتحول هذا المرض إلى وحش ضار يفتك بالشباب والمجتمع.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية