تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سرد الحكايات الصغيرة

ملحق ثقافي
19/1/2010
المؤلف:د:حبيب الراعي:“للحب وقت.. للبقية وقت” عنوان شاعري اختارته الكاتبة “إيمان وردة” بعناية لروايتها،

وأضافت عنواناً فرعياً “لقاءات”، وتندرج الرواية ضمن ما يعرف بأدب السيرة الذاتية، لكن مع محاولة الكاتبة الخروج من العوالم الذاتية والاندماج بعوالم الآخرين.‏

تعتمد الكاتبة أسلوباً سردياً يقوم على القص يقترب إلى “الحكي” العادي الذي يفتقد إلى الأسلوب، ضمن عدة مسارات تتناول فيها حكايات بطلاتها وتشعيباتها مع الشخصيات الفرعية. ونتابع منذ البداية حكاية “شغاف” وهي فتاة جميلة، تحكي لنا الكاتبة على لسان شغاف سيرة والديها التي بدأت بالحب وانتهت بالخيانة الزوجية المتبادلة، وبعد موت والدها تفكر بالانتقام لموته بالانضمام إلى جماعة “أحلام” اليسارية، ثم تتعرف على عامر وتتزوجه، وبعد فترة يسود الفتور والخلافات فتحاول استمالة “فادي” زميلها في دورة الرسم وهكذا.‏

أما “أحلام” فهي جميلة أيضاً من بيئة متوسطة الحال وهي مهتمة بالسياسة وتنتمي لليسار وعلى علاقة مع “سعيد” صديق طفولتها، ويدرس معها في الجامعة، نسيته بعد تعرفها على “عامر” شاب ثري ووسيم جده وزير سابق ووالدته فرنسية، لكنه سرعان ما ابتعد عنها بعد تعرفه على شغاف ليتعلق بها ويتزوجها، بدورها تزوجت “أحلام” من “ماهر” زميلها في الجامعة.‏

الشخصية الثالثة هي “زينب” وهي من قرية قرب حماه “سلمية على الأغلب”، فتاة جميلة كذلك وهي بسيطة متواضعة والدها تاجر بسيط ومزارع تتميز قريتها بالانفتاح والتحرر وارتفاع نسبة المتعلمين والشهادات العلمية، تحب ابن خالها “سامر” طالب في كلية الطب وهو طيب وحنون ومهذب...‏

لا تعجبها شلة الشباب اليساري تراهم يمثلون ومتكبرين وفارغين وسلوكهم الشخصي يثير سخطها..‏

على هذه الشاكلة تمضي الكاتبة في سرد حكايات بطلاتها اللواتي هربن من شقاء وفقر الريف إلى العاصمة مع جيش من الريفيين الذين حلموا بالعاصمة وببريقها وبسرعة الثراء، الأمر الذي شكل علاقة ملتبسة بين الريف والمدينة، وكما تورد الكاتبة ملاحظة “سعد الله ونوس” العميقة والتشخيصية لهذه الظاهرة حيث يقول: “لقد نقلنا قرويتنا إلى دمشق وأنهينا ما كان جميلاً فيها ولم نعطها الطيبة والحب والوداعة التي فينا”.‏

كذلك تحاول الكاتبة سرد حكايات بطلاتها الطالبات الريفيات وقصة حياتهن التي بدأت بالأحلام وانتهت بأمر الواقع، ترصد حماس الشباب المثقف واليسار دون التعمق في التجربة وتقدم موقفاً دون نقد، وسمة تلك الحكايات لا يستطيع أن يتجاوز صفة “العادي” دون إثارة أو إدهاش.‏

كذلك نلاحظ اكتفاء الكاتبة برسم الخطوط الخارجية لشخصياتها دون أن تستطيع الولوج إلى عوالمهم الجوانية ودون الاشتباك مع تفاصيل تقلباتهم النفسية والحالات التي مروا بها في حياتهم المتقلبة، وتبقى “شغاف” الشخصية الأكثر دراسة حيث استطاعت الكاتبة تقريبها إلى حد ما إلى القارئ ورسمتها بمحبة وشغف، حيث غاصت في أعماقها وتعاطفنا مع حاجتها للحب حتى بعد زواجها، وتتحدث عن علاقة شغاف بالأرقام وتفاؤلها بها وكيف أدمنت عادة التطير، التفاؤل والتشاؤم من الأشياء اليومية حتى استحكمت بها.‏

تفاصيل كثيرة وصغيرة في الوقت نفسه وربما هي قليلة الأهمية بحد ذاتها لكنها استطاعت من خلالها أن تجعل هذه الشخصية من لحم ودم.‏

البناء الروائي:‏

تقع الرواية في ستة أجزاء سمتها الكاتبة “لقاءات” مضافاً إليها رقم كل لقاء وجزء أخير جاء بعنوان “ما يشبه الخاتمة”.‏

ترصد أحداث الرواية حياة ثلاث شخصيات، وهن طالبات في جامعة دمشق وعلى درجة واضحة من الجمال والجاذبية، يدرسن اختصاصات مختلفة : “شغاف” تدرس الصيدلة و”أحلام” الهندسة و”زينب” في كلية الآداب لغة انكليزية، تبدأ الرواية باللقاء الأول في مبنى شؤون الطلاب بدمشق عام 1978 حيث تصادف وجودهن للتسجيل في الجامعة وتنتهي الرواية باللقاء السادس في منتجع البيت الدمشقي عام 2007، وما بين اللقاءين تسرد الكاتبة سيرة بطلاتها الثلاث والتي ربما أو على الأغلب هي واحدة منهن؛ حيث يتداخل أسلوب السرد التقليدي لسير الآخرين مع سرد المذكرات الذاتية من جهة أخرى والتي تفصح عن مواقف عاطفية للكاتبة تجاه الآخرين، بداية من تفاصيل الحياة الطلابية ونهايةً بتفاصيل الحياة العائلية وتقلباتها النفسية، وما بينهما ذلك التضاد الصارخ بين رومانسية حياة الطلبة وقسوة الواقع المعاش في عاصمة تطحن الأخضر واليابس.‏

وبالرغم من أن البناء الروائي يتجاوز أحياناً السياق السردي إلا أن الكاتبة تحافظ في أغلب الأحيان على الوحدة البنائية لروايتها والتي لا تخضع لأي تعقيد وتمضي بإيقاع هادئ بالرغم من أنها تتطرق إلى الكثير من الكشف والتعرية بلغة ناعمة بعيدة عن التصادمية والاستفزاز أو التحريض، لكنها في الوقت نفسه تفتقر للتقنيات الفنية وجماليات الإبهار، الأمر الذي ينسحب كذلك على اللغة التي جاءت مبسطة والتي أضفت خصوصية بعيداً عن التكلف والحذلقة.‏

لكن بالتعمق في أجواء الرواية يتلاشى ذلك التناقض الحاصل بين أحداث الرواية وتصديها لموضوعات من النوع الثقيل تتعلق بعلاقة ابن الريف بالمدينة وبالعاصمة دمشق تحديداً، ومن جهة أخرى تعلن صراحة انتمائهم إلى اليسار الذي كان حاضراً بقوة في تلك الفترة أي السبعينيات والثمانينيات.‏

كل ذلك أثقل الرواية بمرجعيات وأفكار متعددة ومتناقضة أحياناً، ومن خلال رصد مصير الأفراد استنطقت الكاتبة تجربة اليسار في سورية بشكل غير مباشر وغير نقدي والتي حاولت تحقيق العدالة الاجتماعية لكنها جعلتنا نرى شلة من الشباب اليساري وقعت في الرومانسية الحالمة أكثر من تبنيها منهجيات العمل الثوري التغييري.‏

كذلك يبرز دور الكاتبة منسجماً مع دور الرواية التقليدية بامتياز، بينما كنا نتوقع أن يوازي تلك الحكايات واللقاءات المتشظية ورصد الكاتبة لعالم متشظ تشظياً آخر تتطلبه بنى الرواية، الأمر الذي يدفع القارئ لممارسة متعة الخلق الروائي كقارئ مبدع والولوج إلى عوالم الرواية ويخوض في جماليات أسلوبها ولغتها الروائية.‏

أما ما وجدناه في رواية “إيمان وردة” أنها مشغولة بالحكايات الصغرى والتي تحاول بناءها على شاكلة الحكايات الكبرى وهي تجميع لتلك الحكايات الصغرى لشخصيات متعددة رئيسية وثانوية تلتقي مع حكاية الكاتبة نفسها، الأمر الذي خلق نوعاً من الارتباك على مستوى البناء الروائي ومعماريته التي جاءت أحياناً مشتتة، وأحياناً أخرى واجهت صعوبة في ضبط الإيقاع العام للرواية.‏

جماليات المكان:‏

تتحدد هوية تلك اللقاءات لبطلات “إيمان وردة” بالزمان والمكان وتحرص الكاتبة على توثيق ذلك عند كل لقاء حيث تذكر مكان اللقاء وتاريخه ونقرأ مثلاً: اللقاء الأول جامعة دمشق – مبنى شؤون الطلاب 1978، واللقاء الثاني أمام المدينة الجامعية – دمشق 1980، واللقاء الخامس جبل قاسيون 2004 وهكذا، مما أضفى عليها قيمة واقعية وتوثيقية عمقت انتماءها للسيرة الذاتية وجعلتنا نعيش متعة الكشف والتعرف إلى الشخصيات والتي شعرنا بانتمائهم إلينا وبأننا على معرفة وثيقة بهم.‏

لكن كان بإمكان الكاتبة جعلنا نعيش أكثر جماليات المكان في دمشقها ونلتصق أكثر بها ونتحسس حجارتها وشوارعها وناسها لكنها بدلاً من ذلك وباستثناء عناوين اللقاءات كانت تمر بسرعة على الأماكن وابتعدت عن التفاصيل التي تمنح سحراً خاصاً ونفساً حقيقياً ينتمي للحياة، كذلك حاولت متعمدة أحياناً إخفاء أسماء بعض الأمكنة الذي أبعدنا بدوره عن المدينة وحلقنا خارج المكان.‏

تنتهي الرواية بما يشبه الخاتمة بتاريخ 9/8/2008 وهو تاريخ وفاة الشاعر محمود درويش حيث تسجل أصداء هذا الحدث على بطلاتها الثلاثة شغاف وأحلام وزينب، درويش الذي شكل رمزاً لذلك الجيل الحالم بالتغيير والثورة، جيل انسحب بشكل أو بآخر من الحياة، ونتساءل كيف تم ذلك أين ذلك الجيل؟ أين دمشق؟ أين هي دمشق؟‏

“للحب وقت.. للبقية وقت” للكاتبة إيمان وردة، رواية صدرت مؤخراً عن دار الطليعة الجديدة في دمشق.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية