|
ملحق ثقافي
وطبيعة, وقرى, ومدن, وشوارع, ومنازل, ومقاهٍ, ومستشفيات, وسجون, وأثاث.., سواء أكان واقعيا أم متخيّلا, انتقائياً أم استقصائياً, لذاته أو لغيره. كما ُيعنى بتصوير الشخصيات بمظهرها الخارجي»الفيزيقي», واستبطان عالمها الداخلي «النفسي», وتعليل سلوكها وأفعالها, وتحديد الحيّز الذي تتحرّك فيه زمانيا ومكانيا, وما تحيل عليه من أبعاد اجتماعية. وهو إذ يقوم بإبطاء إيقاع الزمن فإنه يستدعي أحيانا التأملات الفلسفيّة والذّكريات الحميمة التي تعلّق فعل القراءة. وإذا كان الوصف في الرواية الكلاسيكية يعنى بالتفاصيل الصغيرة بإسهاب, ويقتصر على التزيين وزرع الديكور, فإنه في المدوّنة الروائية الحديثة يعنى بالتكثيف, ويؤدي وظائف جمالية عدّة منها: التمهيد, والتفسير, والإيهام, والترميز, والدلالة. كما تتنوّع مستويات لغته ما بين المستوى الوظيفي المباشر, والمستوى المجازي الإيحائي.
وتسعى هذه الدراسة إلى بيان جماليات الوصف في نماذج روائية سورية, وإلى تمييز أشكاله, ووسائله, وأغراضه, وتجليّاته الفنيّة. وذلك بغرض الإحاطة بهذا العنصر الهام في مكوّنات النّص الروائي, والعمل على استثمار إمكانياته ووظائفه بأعلى مستوى فنّي ممكن. الطبيعة يبدو وصف الطبيعة بفصولها المتقلّبة, ومناخاتها المتباينة, هدفا جماليا, ودلاليا, أثيرا لدى الراوي بصيغه المتعدّدة: «المتكلّم, الغائب, المخاطب». وغالبا ما يأتي هذا الوصف بفعل حاجة ملحّة وليس اعتباطا, ليمهّد للحدث أو ليلقي بظلاله على الحالة النفسيّة للشخصيّة. ونرى تجلياته في رواية الريادة عند كلّ من الجابري في «نهم», ومينه في «المصابيح الزرق» وصدقي إسماعيل في «العصاة» وجورج سالم في روايته اليتيمة «في المنفى» بشكل خاص. فالجابري لا يكتفي بالوصف الخارجي التزييني لبحيرة «فان زيه ص53» الساحرة, ممهدا بذلك لوصف القصر المطل عليها, بل يوظف عناصر الطبيعة ذاتها في استبطان العالم الداخلي لبطلته: «ها هي الشهوة تهدر أمواجها الخمرية في عروق هيلدا كارد. وتصطخب تياراتها في دماغها وغددها حتى تصل إلى البرعمين..ص 184».
وينحو مينه منحى رومانسيا إنشائيا تزيينيا في وصف الطبيعة, يتغيّا منه التأثير في المتلقيّ وإيهامه بالواقعية من ناحية, والربط بين تقلبّ الأحداث وشروق الشمس وأفولها من ناحية ثانية: « الشمس توسّدت صدر البحر, ولملمت بقايا أشعّتها عن رؤوس الأشجار وأسطحة المنازل, وازداد توهّج اليم واحمرار الأفق, وتراقصت زوارق الصيد ناشرة ملاءاتها البيض ص265». أمّا صدقي إسماعيل فيكتفي بومضات وصفية مكثّفة وموحية لكنّها لا تخلو من النزعة الإنشائية التي طبعت الرواية بميسمها في هذه المرحلة: «استيقظ عمران على وهج الشمس يملأ عينيه المتفتّحتين في خدر عذب, ويغمر البيدر بدفء أبيض تتخلّله رطوبة خفيفة تركتها على الأشياء أنداء الليل..وامتلأت جوارحه بموجة مزدحمة من أنفاس الصباح في الريف ص 96».
وفي رواية جورج سالم «في المنفى» يتجاوز وصف الطبيعة حدوده التزيينية والإيهامية إلى التفسير والترميز وإلقاء الظلال النفسية على المشهد وعناصره, موحيا عبر مفرداته ومناخه بالنزعة العدمية. فالغيوم في نظر البطل: «سود داكنة, تحجب شمس الشتاء, وتحيل ضوء النهار إلى ضوء رمادي معتم ص9». الشخصيّة يتعرّف القارئ إلى الشخصيّة الروائية عبر وصف الراوي لها, أو ما يستنتجه من أقوالها, وأفعالها, أو مما تخبر به الشخصيات عنها. ويسلك الراوي في إخباره منحيين: منحى الوصف الفيزيقي «الخارجي» الذي ينشغل بملامح الوجه, والجسد, من حيث لون البشرة, والطول والقصر, أو النحافة والبدانة, ومنحى الوصف النفسي»الداخلي» الذي ينشغل باستبطان الدوافع والنوازع وتفسير السلوك. وقد يمزج بين ما هو فيزيقي ونفسي في الوقت ذاته, كما في رواية فواز حداد: «المترجم الخائن» التي يركز فيها الراوي على المظهر الخارجي للشخصية وعالمها الداخلي وطباعها وسلوكها ومهنتها وتفاصيل حياتها في الماضي والحاضر, كاشفا بذلك عن دوافعها وغاياتها ومفسرا مواقفها الخفية والمعلنة مثل وصفه لحامد سليم قائلا: «لا بالطويل ولا بالقصير. عموما لا يبدو جذّابا ولا منفّرا.. يبدو لين العريكة, لكنه عنيد جدا, إذا اعتقد أنه على حق ص 13» ووصفه للفتاة الأميركية باميلا: « فتاة شقراء جميلة, طويلة القامة, مكتنزة البدن, تعمل سكرتيرة في الخارجيّة الأميركيّة ص 163». ووصفه لسامي: «اشتغل أجيرا في دكان للأقمشة في سوق النسوان, وبائع أدوات منزلية في سوق العصرونية, فبائع أقمشة بالجملة في سوق الحريقة..موهبته الجديدة كانت القديمة نفسها, القدرة حتّى على بيع سمك في الماء ص110, 111». ووصفه لحكيم نافع: « المعروف عنه حيويته المفرطة وولعه بالزحام والعجقة, وكل ما يمتّ بصلة إلى الشعب والتجمّعات والتظاهرات واللافتات ص 126». وهذا التنوّع في الوصف يسهم في نمذجة الشخصيّة الروائية وبلورة الانطباع العام عنها, كما يمنح المتلقّي المفاتيح الأولى لفهمها والدخول إلى عالمها.
وكثيرا ما يتلوّن الوصف بمشاعر الراوي, أو المروي عنه, كاشفاً عن موقفه, ورؤيته للشخصيّة الموصوفة في حالات مختلفة, كما في موقف «علوان» من زوجته «نازك» في رواية هاني الراهب: «بلد واحد هو العالم» الذي يراها في أبشع صورها عندما يتشاجران: «نظر إلى ساقيها اللتين انحسرت عنهما التنّورة وراعه نحولهما البشع, رآهما عصوين مشكولتين في تلّة ترابية». ويراها في مكان آخر عندما يكونان على وفاق: «جميلة, معافاة, ناسية, غافرة, حرّة الجسد, طليقة الأعضاء والنفس.. أمّاً كالأرض وابنة كالثمرة». و في رواية حيدر حيدر: «الزمن الموحش» لا يتعرّف القارئ إلى الشخصيات من خلال حركتها وتفاعلها مع محيطها الاجتماعي, بل من خلال وصف الراوي لها, ونظرته إليها, وما يسبغه عليها من صفات, وينسبه إليها من أفعال بصيغة إخبارية, كما في وصفه لشخصيّة «سامر البدوي»: «وشموه باللاأخلاقي, ولعجزهم عن الوصول إليه, قالوا: هذا المستهتر! قورن برامبو والخيّام ولكنه كان بيرون القرن العشرين القاطن منسياً في دمشق, والذي كان ينقصه أوغستا لينام معها ص140». ويبدو وصف الشخصية في رواية عبد الكريم ناصيف: «الخروج من عنق الزجاجة» تقنية أثيرة للتعرف إليها وإلى سماتها العامة, كما في وصف اللقاء الأول بين وداد ووديع بتفاصيله الدقيقة, ووصف الحالة النفسية لنذير وما يعانيه في الزنزانة المنفردة. وتتعدى وظيفة الوصف عنده التزيين والإيهام إلى الترميز كما في وصف سمك القرش الذي يكني به عن التجار والمتنفّذين الكبار. ويأتي وصف فاطمة لنفسها, في رواية خيري الذهبي: «لو لم يكن اسمها فاطمة» ووصف كل من الراوي, وزوجها, وابنها, وفيليب أوغستان لها, ليسهم في تعدّد زوايا النظر المختلفة إليها, وليغني شخصيّتها ويرفعها من مستوى الشخصيّة البسيطة إلى الشخصيّة المركّبة ذات الأبعاد المتعدّدة. ومن هنا جاء تشبيهها بجان دارك حينا, وبغريتا غاربو حينا آخر. كما أطلقت عليها أسماء عدّة مثل: فاطمة السنغال, وفاتيما, وفاطمة الضباع, وفاطمة بلومبيرغ, ولكل من هذه الأسماء مناسبة تتعلّق بشخصيّتها, وتفسّر معناه ودلالته. المكان المكان بوصفه فضاء متعيّنا أو لا متعيّنا, واقعيا أو متخيّلا, مغلقا أو مفتوحا, أليفا أو معاديا, فارغا أو مؤثّثا, يشكّل عصب الوصف الذي يتغيّا خلق قيمة رمزية أو إيديولوجية أو سيميائية, تولّد المعنى الدلالي اللاحق, وتسلّط الضوء على موقف أو حدث أو شخصيّة. ففي رواية وليد إخلاصي«دار المتعة» يتداخل وصف المكان الواقعي المتعيّن «حلب» المختزن في الشعور الجمعي, بوصف المكان المتخيّل اللامتعين الذي يحمل اسمها: «المنتصرة الكبرى» التي تشبه حلب في موقعها ونظامها العمراني وقلعتها وأسوارها وتلالها وأسواقها. وباختلاط الصورتين وتشابكهما تضيع الحدود ما بينهما , فتتحوّل حلب إلى «المنتصرة الكبرى» ويتحول فيها خان التنابلة المملوكي إلى مطعم فرنسي, فيما تتحوّل بقايا قلعة النسور إلى مسرح في الهواء الطلق, وقاعة الفرسان إلى ناد عالمي للقمار, وأروقة التكية الشيبانية إلى دار لعرض الأزياء! ويوهم وصف المكان عند فواز حداد بواقعية الحدث, ويعمل على تعميق دلالته الرمزية, وتوشية لغته السردية بوشاح رومانسي: «من رصيف سينما الكوزموغراف, بدت ساحة المرجة التي أغلقت مداخلها عند الظهر, قد أصبحت سالكة, بعد أن فرّقت الشرطة والدرك المظاهرات. الغروب يدرج رخيا, ويوشك أن يجثم فوق ساحة لاحت مهجورة, التقاطيع الآفلة تدنو ومعالمها تخبو في اللحظات الأخيرة للضوء, وقد اشتبك في فراغها المتضائل صدى احتدام نهار طويل, مكتنزا بلهاث البشر والعربات وحافلات الترام ص 15». فوصف ساحة المرجة وسينما الكوزموغراف يوهم بواقعية الحدث, كما أن إغلاق مداخل الساحة والمظاهرات والدرك تعمّقان الدلالة الرمزية وتمهّدان للأحداث العاصفة المقبلة. فيما تؤدي بعض التعبيرات الشاعرية والرومانسية مثل: الغروب يدرج رخيّا, التقاطيع الآفلة تدنو.., وظيفتها الجمالية في المشهد الوصفي. ويتحول وصف المكان عند غسان كامل ونوس في «أوقات بريّة» إلى تقنية لتفسير أبعاده والإيهام بواقعيته وبيان علاقته بالشخصيّة ودلالاته السلبية والإيجابية. وغالبا ما يوشّى بغلالة من الغموض الشفاف الذي لا يفصح عن اسم المكان بقدر ما يحاول الإيحاء به, كما في وصف المهجع: « كل الأجساد ممدّدة, المصباح سيطفأ في العاشرة, وسيسود الظلام ساعات. الكلام ممنوع, والقراءة مستحيلة, وويل لمن يغنّي ص 86». أو وصف السجن: « الظلمة تتقوقع, والوشوشات تتوسّع, ويسيل الأنين, هل هو الثقب الأسود الواصل بين الأكوان أم يوم الحشر؟ هل كل هؤلاء مرتكبون؟ وهل هو عنبر واحد ص 86». إن الوصف بأشكاله السابقة ووظائفه ليس سوى عنصر من عناصر بنية النّص الروائي القائمة على المفارقات الزمانية/ المكانية, والحوار, والسرد, واللغة, والحبكة, التي تتناغم في مجملها متنا وخطابا لتمنحه كينونته وهويته وجاذبيته. |
|